الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ، أَوْ عِلْمِيَّةً تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ، وَحَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ الْبَصْرِيَّةِ مَنْصُوبًا كَانَ الْأَوَّلُ مَفْعُولَهَا، وَالثَّانِي حَالًا. وَمِمَّا يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} (الْحَجِّ: 2) فَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً كَانَ النَّاسُ مَفْعُولًا، وَسُكَارَى حَالًا، وَإِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً فَهُمَا مَفْعُولَاهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} (الْجَاثِيَةِ: 28). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزُّمَرِ: 60)، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ أَعْنِي قَوْلَهُ: {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزُّمَرِ: 60) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى الْحَالِ إِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ إِنْ كَانَتْ قَلْبِيَّةً. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} (الْأَنْعَامِ: 6) فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِغَيْرِ وَاوٍ كَمَا فِي الْأَنْعَامِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْوَاوِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْفَاءِ {أَفَلَمْ يَرَوْا} (سَبَأٍ: 9). وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَأْتِي عَلَى وَجْهَيْنِ. - (أَحَدُهُمَا): أَنْ تَتَّصِلَ بِمَا كَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَيُذْكَرُ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ، وَلِتَدُلَّ الْأَلْفُ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ عَلَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ قَبْلِهَا، وَكَذَلِكَ الْفَاءُ لَكِنَّهَا أَشَدُّ اتِّصَالًا مِمَّا قَبْلَهَا. - (وَالثَّانِي): أَنْ يَتَّصِلَ بِمَا الِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الْأَلِفِ دُونَ الْوَاوِ وَالْفَاءِ لِيَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْتِئْنَافِ. وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} (الْآيَةَ: 79) لِاتِّصَالِهَا بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (النَّحْلِ: 78) وَسَبِيلُهَا الِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِدْلَالِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} وَأَمَّا " أَرَأَيْتَ " فَبِمَعْنَى " أَخْبِرْنِي "، وَلَا يُذْكَرُ بَعْدَهَا إِلَّا الشَّرْطُ، وَبَعْدَهُ الِاسْتِفْهَامُ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 46) الْآيَةَ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} (الْمُلْكِ: 30). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (الْمَاعُونِ: 1). وَأَمَّا " رَأَيْتَ " الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، فَهِيَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: إِلَّا أَنَّهُمْ يَلْجَئُونَ فِيهَا، وَجَوَابُهَا أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا؟ كَيْفَ يَكُونُ كَذَا بِمَعْنَى عَدَمِ الشَّرْطِ. ثُمَّ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ عَلَى نَمَطِ الْآيَاتِ الشَّرِيفَةِ، وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ كَيْفَ تَصَرَّفَتْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الْفُرْقَانِ: 45) فَدَخَلَهَا مَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَلَمْ تَعْجَبْ إِلَى كَذَا! فَتَعَدَّتْ بِإِلَى كَأَنَّهُ: أَلَمْ تَنْظُرْ، وَدَخَلَتْ إِلَى بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، وَعُلِّقَ الْفِعْلُ عَلَى جُمْلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَيْسَتْ بِبَدَلٍ مِنَ الرَّبِّ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعَلَّقُ. وَأَمَّا " أَرَأَيْتُكَ " فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ لَهَا فِي الْعَرَبِيَّةِ نَظِيرٌ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ عَلَامَتَيْ خِطَابٍ، وَهُمَا التَّاءُ وَالْكَافُ، وَالتَّاءُ اسْمٌ بِخِلَافِ الْكَافِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَرْفٌ يُفِيدُ الْخِطَابَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى مَبْنَاهَا عَلَيْهِ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَهُوَ ذِكْرُ الِاسْتِبْعَادِ بِالْهَلَاكِ، وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَاكْتَفَى بِخِطَابٍ وَاحِدٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: الْإِتْيَانُ بِأَدَاةِ الْخِطَابِ بَعْدَ الضَّمِيرِ الْمُفِيدِ لِذَلِكَ تَأْكِيدٌ بِاسْتِحْكَامِ غَفْلَتِهِ كَمَا تَحَرَّكَ النَّائِمُ بِالْيَدِ، وَالْمُفْرِطُ الْغَفْلَةِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، وَلِهَذَا حُذِفَتِ الْكَافُ فِي آيَةِ يُونُسَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهَا ذِكْرُ صَمَمٍ وَلَا بَكَمٍ يُوجِبُ تَأْكِيدَ الْخِطَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهَا قَوْلُهُ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (يُونُسَ: 31) إِلَى مَا بَعْدَهُنَّ، فَحَصَلَ تَحْرِيكُهُمْ وَتَنْبِيهُهُمْ بِمَا لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إِلَّا التَّذْكِيرُ بِعَذَابِهِمْ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (الْإِسْرَاءِ: 62) قَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هَذِهِ الْكَافُ لَوْ كَانَتِ اسْمًا اسْتَحَالَ أَنْ تُعَدَّى " أَرَأَيْتَ " إِلَّا إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، يُرِيدُ قَوْلَهُمْ: " أَرَأَيْتَ زَيْدًا قَائِمًا " لَا تُعَدَّى " أَرَأَيْتَ " إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ هُوَ " زَيْدٌ " وَمَفْعُولٍ آخَرَ هُوَ " قَائِمٌ "، فَالْأَوَّلُ هُوَ الثَّانِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ جَعَلَ الْأَدَاةَ الْمُؤَكَّدَ بِهَا الْخِطَابُ فِي " أَرَأَيْتُكُمْ " ضَمِيرًا لَمْ يَلْزَمْهُ اعْتِرَاضٌ بِتَعَدِّي فِعْلِ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي " الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ "، بَابِ الظَّنِّ، وَفِي فِعْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَابِ " ظَنَنْتُ "، وَهُمَا " فَقَدْتُ " وَ " عَدِمْتُ "، وَكَذَلِكَ تَعَدِّي فِعْلِ الظَّاهِرِ إِلَى مُضْمَرِهِ الْمُتَّصِلِ جَائِزٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ بَابِ الظَّنِّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ " رَأَيْتُ " رُؤْيَةَ الْقَلْبِ فَهِيَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ مُطْلَقًا تَعَدِّي فِعْلِ الْمُضْمَرِ الْمُتَّصِلِ إِلَى ظَاهِرِهِ، فَلَا اخْتِلَافَ فِي مَنْعِ هَذَا مِنْ كُلِّ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا مَنْ جَرَّدَ أَدَاةَ الْخِطَابِ الْمُؤَكَّدِ بِهَا لِلْحَرْفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ فَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ الْكَافِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَقْوَالٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا مَوْضِعَ لَهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَوْضِعُهَا نَصْبٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رَفْعٌ. ثُمَّ قَالَ الْكِسَائِيُّ: لَمْ يَرِدْ أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ فِعْلَهُ عَلَى نَصْبِهِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يُقْصَدْ بِالْفِعْلِ قَصْدُ وَاحِدٍ مَعْرُوفٍ وَلَوْ قُصِدَ وَاحِدٌ لَعَيَّنَهُ لَمَا قَالَ " أَرَأَيْتَكَ " وَفَتَحَ الْفَاءَ لِلْآتِي، وَلَكِنَّهُ فِعْلٌ تُرِكَ فِيهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَجُعِلَتِ الْكَافُ فِيهِ خَلَفًا. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَلَهَا مَوْضِعَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي فَلَا تَقَعُ إِلَّا عَلَى اسْمٍ مُفْرَدٍ، أَوْ جُمْلَةِ شَرْطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 46) الْآيَةَ، وَلَا يَقَعُ الشَّرْطُ إِلَّا مَاضِيًا، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لَيْسَ بِجَوَابٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَلَّقٌ بِـ " أَرَأَيْتُكَ "، وَجَوَابُ الشَّرْطِ إِمَّا مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ، وَإِمَّا لِلِاسْتِفْهَامِ مَعَ عَامِلِهِ، مَعْنِيٌّ عَنْهُ. وَإِذَا ثُنِّيَ هَذَا أَوْ جُمِعَ لَحِقَتْ بِالتَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ الْكَافُ، وَكَانَتِ التَّاءُ مُفْرَدَةً بِكُلِّ حَالٍ. قَالَ السِّيرَافِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِفْرَادُهُمْ لِلتَّاءِ اسْتِغْنَاءً بِتَثْنِيَةِ الْكَافِ وَجَمْعِهَا، لِأَنَّهَا لِلْخِطَابِ، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَغَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى عَلِمْتُ. (وَالثَّانِي) تَكُونُ فِيهِ بِمَعْنَى انْتَبِهْ كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا فَإِنِّي أُحِبُّهُ، أَيِ انْتَبِهْ لَهُ، فَإِنِّي أُحِبُّهُ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِفْهَامُ. وَقَدْ يُحْذَفُ الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ جَوَابٌ لِلْعِلْمِ بِهِ فَلَا يُذْكَرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} (هُودٍ: 88) فَلَمْ يَأْتِ بِجَوَابٍ. وَأَتَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالْجَوَابِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالشَّرْطِ، قَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (الْجَاثِيَةِ: 23) فَـ " مَنْ " الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ " الَّذِي ".
قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَجُوزُ إِلْغَاءُ أَرَأَيْتَ كَمَا يُلْغَى: عَلِمْتُ أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي أَرَأَيْتَ، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّصْبِ إِذَا قُلْتَ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ؟ قَالَ: لِأَنَّ دُخُولَ مَعْنَى " أَخْبِرْنِي " فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ " أَخْبِرْنِي " فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهَا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي خِلَافَ قَوْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَطْلُوبُهَا، وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ} (الْعَلَقِ: 13- 14) فَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمْ} اسْتِفْهَامٌ وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ أَرَأَيْتَ، وَكَذَلِكَ " أَرَأَيْتُمْ "، وَ " أَرَأَيْتَكُمْ " فِي الْأَنْعَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ: {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 47) وَ {الْفَاسِقُونَ} (الْأَحْقَافِ: 35). وَهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَ سِيبَوَيْهِ فِي " أَرَأَيْتَ " وَ " أَرَأَيْتَكَ "، وَلَا يُقَالُ: " أَرَأَيْتَكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ "؟ قَالَ: لَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ، لَكِنْ إِذَا وَلِيَ الِاسْتِفْهَامُ " أَرَأَيْتَ " وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي التَّنْزِيلِ فَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ مَفْعُولُ " أَرَأَيْتَ "، إِنَّمَا مَفْعُولُهَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الشَّرْطُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا؟ كَمَا تَقُولُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتَ الْعَدُوَّ أَتُقَاتِلُ أَمْ لَا؟ تَقْدِيرُهُ: أَرَأَيْتَ رَأْيَكَ وَصُنْعَكَ إِنْ لَقِيتَ الْعَدُوَّ؟ فَحَرْفُ الشَّرْطِ وَهُوَ " إِنَّ " دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ، وَمُرْتَبِطٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مُنْقَطِعٌ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ، وَلَوْ زَالَ الشَّرْطُ وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لَقَبُحَ، كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ وَيَحْسُنُ فِي " عَلِمْتَ "، وَهَلْ " عَلِمْتَ "، وَهَلْ " رَأَيْتَ "، وَإِنَّمَا قَبَّحَهُ مَعَ " أَرَأَيْتَ " خَاصَّةً وَهِيَ الَّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى " أَخْبِرْنِي ".
لَا تَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَعَانِي، نَحْوُ: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (النَّحْلِ: 78). فَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (التَّوْبَةِ: 101) وَقَوْلِهِ: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 3) فَالتَّقْدِيرُ: " لَا تَعْلَمُ خَبَرَهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُ خَبَرَهُمْ "، " فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ صِدْقَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ نِفَاقَ الْمُنَافِقِينَ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ. وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْيَقِينِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الظَّنِّ أَيْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 10). وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقِيَّتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ اللِّسَانِيُّ.
أَصْلُهَا لِلِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا} (الْبَقَرَةِ: 230). وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، لِأَنَّ الظَّنَّ فِيهِ طَرَفٌ مِنَ الْيَقِينِ لَوْلَاهُ كَانَ جَهْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 46) {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ} (الْحَاقَّةِ: 20) {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} (الْقِيَامَةِ: 28) {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 4) وَلِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ ضَابِطَانِ. - (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الظَّنُّ مَحْمُودًا مُثَابًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْيَقِينُ، وَحَيْثُ وُجِدَ مَذْمُومًا مُتَوَعَّدًا بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ، فَهُوَ الشَّكُّ. - (الثَّانِي) أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بَعْدَهُ " أَنْ " الْخَفِيفَةُ فَهُوَ شَكٌّ كَقَوْلِهِ: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 230) وَقَوْلِهِ: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} (الْفَتْحِ: 12). وَكُلُّ ظَنٍّ يَتَّصِلُ بِهِ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْيَقِينُ كَقَوْلِهِ: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (الْحَاقَّةِ: 20) {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} (الْقِيَامَةِ: 28). وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُشَدَّدَةَ لِلتَّأْكِيدِ، فَدَخَلَتْ عَلَى الْيَقِينِ، وَأَنَّ الْخَفِيفَةَ بِخِلَافِهَا فَدَخَلَتْ فِي الشَّكِّ. مِثَالُ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (الْأَنْفَالِ: 66) ذَكَرَهُ بِـ " أَنَّ "، وَقَوْلُهُ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (مُحَمَّدٍ: 19). وَمِثَالُ الثَّانِي: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 71) وَالْحُسْبَانُ الشَّكُّ. فَإِنْ قِيلَ: يَرُدُّ عَلَى هَذَا الضَّابِطِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} (التَّوْبَةِ: 118) قِيلَ: لِأَنَّهَا اتَّصَلَتْ بِالِاسْمِ وَهِيَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَفِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ اتَّصَلَتْ بِالْفِعْلِ. فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الضَّابِطِ فَإِنَّهُ مِنْ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ رَأَيْتُ الرَّاغِبَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الظَّنُّ أَعَمُّ أَلْفَاظِ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا حَصَلَ عَنْ أَمَارَةٍ، فَمَتَى قَوِيَتْ أَدَّتْ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَتَى ضَعُفَتْ جِدًّا لَمْ تَتَجَاوَزْ حَدَّ الْوَهْمِ، وَأَنَّهُ مَتَى قَوِيَ اسْتُعْمِلَ فِيهِ " أَنَّ " الْمُشَدَّدَةُ، وَ " أَنْ " الْمُخَفَّفَةُ مِنْهَا، وَمَتَى ضَعُفَ اسْتُعْمِلَ مَعَهُ " إِنْ " وَ " إِنَّ " الْمُخْتَصَّةُ بِالْمَعْدُومِينَ مِنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ، نَحْوُ: ظَنَنْتُ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْ يَخْرُجَ، فَالظَّنُّ إِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَحْمُودٌ، وَإِذَا كَانَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَمَذْمُومٌ. فَمِنَ الْأَوَّلِ: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 46). وَمِنَ الثَّانِي: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الْجَاثِيَةِ: 24) وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النَّجْمِ: 28)
فَائِدَةٌ: [فِي الْكَلَامِ عَلَى مَفْعُولَيْ ظَنَّ] لَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ فِي بَابِ " ظَنَّ " عَلَى أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (التَّكْوِيرِ: 24)، قَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَابْنُ كَثِيرٍ بِالظَّاءِ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالضَّمِيرُ هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالضَّادِ، وَهُوَ بِمَعْنَى بَخِيلٌ، وَفَعِيلٌ فِيهِ بِمَعْنَى فَاعِلٍ، وَفِيهِ ضَمِيرٌ هُوَ فَاعِلُهُ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ بِبَخِيلٍ عَلَى الْغَيْبِ فَلَا يَمْنَعُهُ كَمَا تَفْعَلُهُ الْكُهَّانُ، وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: لَيْسَ بِمُتَّهَمٍ عَلَى الْغَيْبِ لِأَنَّهُ الصَّادِقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (الْأَحْزَابِ: 10) فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي قَوْلِكَ: نَزَلْتُ بِزَيْدٍ، فَالْمَعْنَى أَوْقَعْتُ ظَنِّي بِهِ. [شَعَرَ]
وَمِنْهُ شَعَرَ بِمَعْنَى عَلِمَ، وَمَصْدَرُهُ " شِعْرَةٌ " بِكَسْرِ الشِّينِ كَالْفِطْنَةِ، وَقَالُوا: لَيْتَ شِعْرِي فَحَذَفُوا التَّاءَ مَعَ الْإِضَافَةِ لِلْكَثْرَةِ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّعَارِ، وَهُوَ مَا يَلِي الْجَسَدَ، فَكَأَنَّ شَعَرْتُ بِهِ، عَلِمْتُهُ عِلْمَ حِسٍّ، فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُوصَفْ بِهِ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْكُفَّارِ: {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (الْقَصَصِ: 11) أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ لِلْبُعْدِ عَنِ الْفَهْمِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَإِنَّ الْبَهِيمَةَ قَدْ تَشْعُرُ بِحَيْثُ كَانَتْ تُحِسُّ، فَكَأَنَّهُمْ وُصِفُوا بِنِهَايَةِ الذَّهَابِ عَنِ الْفَهْمِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} (الْبَقَرَةِ: 154) إِلَى قَوْلِهِ {وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 154) وَلَمْ يَقُلْ: لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ، عَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمُ الْعِلْمَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَا تَشْعُرُونَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ يَشْعُرُونَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا عَلِمُوهُ يُحِسُّونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ، فَلَمَّا كَانُوا لَا يَعْلَمُونَ بِحَوَاسِّهِمْ حَيَاتَهُمْ، وَأَنَّهُمْ عَلِمُوهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يُقَالَ: لَا تَشْعُرُونَ دُونَ لَا تَعْلَمُونَ.
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا رَجَاءً وَطَمَعًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، لِأَنَّ الْخَلْقَ هُمُ الَّذِينَ تَعْرِضُ لَهَمُ الشُّكُوكُ وَالظُّنُونُ، وَالْبَارِئُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَالْوَجْهُ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُمْكِنَةَ لِمَا كَانَ الْخَلْقُ يَشُكُّونَ فِيهَا، وَلَا يَقْطَعُونَ عَلَى الْكَائِنِ مِنْهَا، وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْكَائِنَ مِنْهَا عَلَى الصِّحَّةِ صَارَتْ لَهَا نِسْبَتَانِ: نِسْبَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تُسَمَّى نِسْبَةَ قَطْعٍ وَيَقِينٍ، وَنِسْبَةٌ إِلَى الْمَخْلُوقِ وَتُسَمَّى نِسْبَةَ شَكٍّ وَظَنٍّ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ لِذَلِكَ تَرِدُ تَارَةً بِلَفْظِ الْقَطْعِ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (الْمَائِدَةِ: 54). وَتَارَةً بِلَفْظِ الشَّكِّ بِحَسَبِ مَا هِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ كَقَوْلِهِ: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (الْمَائِدَةِ: 52) {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 79). وَقَوْلِهِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ حِينَ أَرْسَلَهُمَا مَا يُفْضِي إِلَيْهِ حَالُ فِرْعَوْنَ، لَكِنْ وَرَدَ اللَّفْظُ بِصُورَةِ مَا يَخْتَلِجُ فِي نَفْسِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنَ الرَّجَاءِ وَالطَّمَعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: انْهَضَا إِلَيْهِ وَقُولَا فِي نُفُوسِكُمَا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى. وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ جَاءَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالْعَرَبُ قَدْ تُخْرِجُ الْكَلَامَ الْمُتَيَقَّنَ فِي صُورَةِ الْمَشْكُوكِ لِأَغْرَاضَ فَتَقُولُ: لَا تَتَعَرَّضْ لِمَا يُسْخِطُنِي، فَلَعَلَّكَ إِنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ سَتَنْدَمُ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْدَمُ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّكِّ تَحْرِيرًا لِلْمَعْنَى، وَمُبَالَغَةً فِيهِ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَوْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لَهُ، فَكَيْفَ وَهُوَ كَائِنٌ لَا شَكَّ فِيهِ. وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا فَسَّرَ الزَّجَّاجُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الْحِجْرِ: 2). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (غَافِرٍ: 36) فَاطِّلَاعُهُ إِلَى الْإِلَهِ مُسْتَحِيلٌ، فَبِجَهْلِهِ اعْتَقَدَ فِي الْمُسْتَحِيلِ الْإِمْكَانِ، لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي الْإِلَهِ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمَكَانَ. وَنَصَّ ابْنُ الدَّهَّانِ فِي " لَعَلَّ " جَوَازَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْمُسْتَحِيلِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ: لَعَلَّ زَمَانًا تَوَلَّى يَعُودُ *** وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ مَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ عَسَى فَاعِلُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَهِيَ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} (التَّحْرِيمِ: 5) وَلَمْ يُطَلِّقْهُنَّ وَلَمْ يُبَدِّلْ بِهِنَّ. وَقَوْلُهُ: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 8) وَهَذِهِ فِي بَنَى النَّضِيرِ، وَقَدْ سَبَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتَلَهُمْ وَأَبَادَهُمْ. وَقَالَ أَيْضًا: وَهَذَا عِنْدِي مُتَأَوَّلٌ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَقْدِيرُهُ: " إِنْ طَلَّقَكُنَّ يُبْدِلْهُ " وَمَا فَعَلَ، فَهَذَا شَرْطٌ يَقَعُ فِيهِ الْجَزَاءُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، وَالثَّانِي تَقْدِيرُهُ: " إِنْ عُدْتُمْ رَحِمَكُمْ " وَهُمْ أَصَرُّوا، وَعَسَى عَلَى بَابِهَا. (قَالَ): وَعَسَى مَاضِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، لِأَنَّهُ طَمِعَ وَقَدْ يَحْصُلُ فِي شَيْءٍ مُسْتَقْبَلٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَاضِي اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلٌ فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ طَمَعٍ يُرِيدُ أَنْ يَقَعَ. وَاعْلَمْ أَنَّ عَسَى تُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهَيْنِ: - (أَحَدُهُمَا) تَرْفَعُ اسْمًا صَرِيحًا وَيُؤْتَى بَعْدَهُ بِخَبَرٍ، وَيَلْزَمُ كَوْنُهُ فِعْلًا مُضَارِعًا، نَحْوُ: عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومَ، فَلَا يَجُوزُ قَائِمًا، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} (الْمَائِدَةِ: 52) فَيَكُونُ " أَنْ وَالْفِعْلُ " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِعَسَى. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: فِي مَوْضِعِ رَفْعِ بَدَلٍ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. - (الثَّانِي) أَنْ يَكُونَ الْمَرْفُوعُ بِهَا " أَنْ وَالْفِعْلُ "، وَهُوَ عَسَى أَنْ يَقُومَ زَيْدٌ، فَلَا يَفْتَقِرُ هُنَا إِلَى مَنْصُوبٍ؛ لِأَنَّ الْمَرْفُوعَ بِهَا وَ " أَنْ " فِي الْمَعْنَى اسْمٌ وَاحِدٌ. وَنَظِيرُهُ: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 71). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 79) لَا يَجُوزُ رَفْعُ " رَبِّكِ " بِـ " عَسَى "، لِئَلَّا يَلْزَمَ الْفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ وَالْمَوْصُولِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَهُوَ " رَبُّكَ " لِأَنَّ " مَقَامًا مَحْمُودًا " مَنْصُوبٌ بِـ " يَبْعَثَكَ ". وَكَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 216) لِأَنَّ الضَّمِيرَيْنِ مُتَّصِلَانِ بِـ " تَكْرَهُوا " وَ " تُحِبُّوا "، فَلَا يَكُونُ فِي " عَسَى " ضَمِيرٌ، وَ {أَنْ يَنْفَعَنَا} (الْقَصَصِ: 9) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: " حَسِبْتُ أَنْ يَفْعَلَ "، فَيَكُونُ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى مُوسَى وَ " أَنْ يَنْفَعَنَا " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ
" افْعَلْ " وَ " فَعَلْتُ " مِنْهُ تَخِذْتُ قَالَ تَعَالَى:، {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الْكَهْفِ: 77) قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَلَا أَعْلَمُ " تَخِذْتُ " يَتَعَدَّى إِلَّا إِلَى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: أَصْلُ " اتَّخَذْتُ " " تَخِذْتُ "، فَأَمَّا " اتَّخَذْتُ " فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ. - (أَحَدُهَا): مَا يَتَعَدَّى فِيهِ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (الْفُرْقَانِ: 27). {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزُّخْرُفِ: 16). {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الْفُرْقَانِ: 3) {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الْأَنْبِيَاءِ: 17). {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 41). - (وَالثَّانِي): مَا يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، وَالثَّانِي مِنْهُمَا الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى. وَهُمَا إِمَّا مَذْكُورَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (الْمُنَافِقُونَ: 2). وَقَالَ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 1). {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} (الْمُؤْمِنُونَ: 110). وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} (الْأَحْقَافِ: 28) فَمَفْعُولُ " اتَّخَذُوا " الْأَوَّلُ الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ الرَّاجِعُ إِلَى الَّذِينَ، وَالثَّانِي " آلِهَةً " وَ " قُرْبَانًا " نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. قَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَلَوْ نُصِبَ " قُرْبَانًا " مَفْعُولًا ثَانِيًا، وَ " آلِهَةً " بَدَلًا مِنْهُ فَسَدَ الْمَعْنَى. وَإِمَّا مَعَ حَذْفِ الثَّانِي كَقَوْلِهِ: {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} (الْبَقَرَةِ: 51). {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} (الْبَقَرَةِ: 54). {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} (الْأَعْرَافِ: 148). {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا} (الْأَعْرَافِ: 148) تَقْدِيرُهُ فِي الْجَمِيعِ: اتَّخَذُوهُ آلِهَةً، لِأَنَّ نَفْسَ اقْتِنَاءِ الْعِجْلِ لَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ آلِهَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ جَاءَ تَعْذِيبُ الصُّورَتَيْنِ هُنَا، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُهُ هُنَا، إِنَّمَا الْمُرَتَّبُ عَلَى الِاتِّخَاذِ قَدْرًا زَائِدًا. - (الثَّالِثُ): مَا يَجُوزُ فِيهِ الْأَمْرَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (الْبَقَرَةِ: 125). فَإِنْ جَوَّزْنَا زِيَادَةَ " مَنْ " فِي الْإِيجَابِ كَانَ مِنَ الْمُتَعَدِّي لِاثْنَيْنِ، وَإِنْ مَنَعْنَا كَانَ لِوَاحِدٍ. وَنَظِيرُهُ " جَعَلْتُ " قَالَ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الْأَنْعَامِ: 1) أَيْ خَلَقَهُمَا. فَإِذَا تَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ كَانَ الثَّانِي الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يُونُسَ: 87) {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (الْقَصَصِ: 41) {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (السَّجْدَةِ: 24)
تَجِيءُ بِمَعْنَى " غَصَبَ "، وَمِنْهُ: مَنْ أَخَذَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. وَبِمَعْنَى " عَاقَبَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هُودٍ: 102). {أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} (الْأَعْرَافِ: 94). {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (هُودٍ: 67). {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (الْأَعْرَافِ: 165). {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (الْقَمَرِ: 42). {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} (الْكَهْفِ: 58). {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} (فَاطِرٍ: 45). وَ {لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (الْبَقَرَةِ: 286). {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 89). وَتَجِيءُ لِلْمُقَارَبَةِ، قَالُوا: أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا، كَمَا قَالُوا: جَعَلَ يَقُولُ، وَكَرَبَ يَقُولُ. وَتَجِيءُ قَبْلَ فِعْلٍ مِمَّا يَلْتَقِي بِهِ الْقَسَمُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 187). {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 63). وَبِمَعْنَى اعْمَلْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} (الْبَقَرَةِ: 63) أَيِ اعْمَلُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهُوا عَمَّا نُهِيتُمْ عَنْهُ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ.
يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ كَأَعْطَى، وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا. ثُمَّ قَدْ يَتَعَدَّى بِغَيْرِ حَرْفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} (الْمُمْتَحَنَةِ: 10). {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 7). وَقَدْ يَتَعَدَّى بِالْحَرْفِ إِمَّا بِالْبَاءِ كَقَوْلِهِ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (الْمَعَارِجِ: 1) وَإِمَّا بِعَنْ كَقَوْلِكِ: سَلْ عَنْ زَيْدٍ. وَكَذَا {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} (الْأَعْرَافِ: 163). وَالْمُتَعَدِّيَةُ لِمَفْعُولَيْنِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. - (أَحَدُهَا): أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ " أَعْطَيْتُ " كَقَوْلِكَ: سَأَلْتُ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو حَقًّا، أَيِ اسْتَعْطَيْتُهُ أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. - (وَالثَّانِي): بِمَنْزِلَةِ: اخْتَرْتُ الرِّجَالَ زَيْدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} (الْمَعَارِجِ: 10) أَيْ عَنْ حَمِيمٍ لِذُهُولِهِ عَنْهُ. - (وَالثَّالِثُ): أَنْ يَقَعَ مَوْقِعَ الثَّانِي مِنْهُمَا اسْتِفْهَامٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 211). {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزُّخْرُفِ: 45). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} (الْمَعَارِجِ: 1) فَالْمَعْنَى سَأَلَ سَائِلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، فَذَكَرَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ، وَسُؤَالُهُمْ عَنِ الْعَذَابِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِعْجَالُهُمْ لَهُ كَاسْتِبْعَادِهِمْ لِوُقُوعِهِ، وَلِرَدِّهِمْ مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنْهُ. وَعَلَى هَذَا: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} (الرَّعْدِ: 6). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النِّسَاءِ: 32) فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مِنْ " فِيهِ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَأَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا، وَالصِّفَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} (الْأَعْرَافِ: 187) فَيَحْتَمِلُ أَنَّ " عَنْهَا " مُتَعَلِّقَةٌ بِالسُّؤَالِ كَأَنَّهُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْهَا كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا، فَحَذَفَ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِطُولِ الْكَلَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ " بِهَا " وَتَتَّصِلُ بِالْحَفَاوَةِ وَتَارَةً بِالْبَاءِ، وَتَارَةً بِعْنَ كَالسُّؤَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْبَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} (مَرْيَمَ: 47)، وَقَالَ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (الْفُرْقَانِ: 59)، أَيْ مَسْئُولًا خَبِيرًا، وَمَعْنَى " اسْأَلْ " تَبَيَّنْ بِسُؤَالِكَ.
فِعْلٌ يَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَأَعْطَيْتُهُ، وَلَيْسَ كَظَنَنْتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} (طه: 80) فَـ " جَانِبَ " مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَلَا يَكُونُ ظَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ، أَيْ وَعُدْنَاكُمْ إِتْيَانَهُ، أَوْ مُكْثًا فِيهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} (الْفَتْحِ: 20) فَالْغَنِيمَةُ تَكُونُ الْغُنْمَ. فَإِنْ قُلْتَ: الْغُنْمُ حَدَثٌ لَا يُؤْخَذُ، إِنَّمَا يَقَعُ الْأَخْذُ عَلَى الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي! (قُلْتُ): يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُمِّيَ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ، كَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ، أَوْ يُقَدَّرُ مَحْذُوفٌ، أَيْ تَمْلِيكُ مَغَانِمَ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} (الْمَائِدَةِ: 9) وَقَوْلُهُ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} (النُّورِ: 55) فَإِنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: " لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ " وَ " لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " تَفْسِيرٌ لِلْوَعْدِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (النِّسَاءِ: 11) تَبْيِينٌ لِلْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (النِّسَاءِ: 11). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} (طه: 86) {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} (إِبْرَاهِيمَ: 22) فَيُحْتَمَلُ انْتِصَابُ الْوَاحِدِ بِالْمَصْدَرِ، أَوْ بِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَسُمِّيَ الْمَوْعُودُ بِهِ " الْوَعْدَ " كَالْمَخْلُوقِ " الْخَلْقَ ". وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 7) وَ " إِحْدَى " فِي مَوْضِعِ نَصْبِ مَفْعُولٍ ثَانٍ، وَ " أَنَّهَا لَكُمْ " بَدَلٌ مِنْهُ، أَيْ إِتْيَانَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ تَمْلِيكَهُ، وَالطَّائِفَتَانِ الْعِيرُ وَالنَّصْرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ} (الْمُؤْمِنُونَ: 35) فَمَنْ قَدَّرَ فِي أَنَّ الثَّانِيَةَ الْبَدَلُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ مَحْذُوفًا، لِيَتِمَّ الْكَلَامُ، فَيَصِحُّ الْبَدَلُ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيَعِدُكُمْ إِرَادَةَ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ، لِيَكُونَ اسْمُ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْحَدَثِ، وَمَنْ قَدَّرَ فِي الثَّانِيَةِ الْبَدَلَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ، وَمَنْ رَفَعَ " أَنَّكُمُ " الثَّانِيَةَ بِالظَّرْفِ فَإِنَّهُ قَالَ: " أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِخْرَاجُكُمْ " لَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} (التَّوْبَةِ: 114) فَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَرِّ صِفَةٍ لِلنَّكِرَةِ، وَقَدْ عَادَ الضَّمِيرُ فِيهَا إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَالْفِعْلُ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} (الْأَعْرَافِ: 142) فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثِينَ ظَرْفًا، لِأَنَّ الْوَعْدَ لَيْسَ فِي كُلِّهَا بَلْ فِي بَعْضِهَا، فَيَكُونُ مَفْعُولًا ثَانِيًا
قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: بِمَعْنَى تَمَنَّى يُسْتَعْمَلُ مَعَهَا " لَوْ " وَ " أَنْ "، وَرُبَّمَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا، نَحْوُ: وَدُّوا لَوْ أَنْ فَعَلَ، وَمَصْدَرُهُ الْوَدَادَةُ، وَالِاسْمُ مِنْهُ وُدٌّ، وَقَدْ يَتَدَاخَلَانِ فِي الِاسْمِ وَالْمَصْدَرِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: إِذَا كَانَ " وَدَّ " بِمَعْنَى أَحَبَّ لَا يَجُوزُ إِدْخَالُ " لَوْ " فِيهِ أَبَدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِذَا كَانَ بِمَعْنَى " تَمَنَّى " صَلَحَ لِلْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ لَمْ يَصْلُحْ لِلْمَاضِي، لِأَنَّ الْإِرَادَةَ هِيَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ لِلْمَاضِي لَمْ يَجُزْ " أَنْ "، وَإِذَا كَانَ لِلْحَالِ أَوْ لِلِاسْتِقْبَالِ جَازَ " أَنْ " وَ " لَوْ ". وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، لِأَنَّ " أَنْ " تُوصَلُ بِالْمَاضِي، نَحْوُ: سَرَّنِي أَنْ قُمْتَ. (قُلْتُ): فَكَانَ الْأَحْسَنُ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِكَلَامِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَوَّزَ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ دُخُولَ " أَنْ " وَهِيَ لِلْمُسْتَقْبَلِ، فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِهَا
فِيهِ قَوَاعِدُ: - (الْأُولَى) إِذَا أُضِيفَ إِلَى جِنْسِهِ لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ، كَقَوْلِكَ: زِيدٌ أَشْجَعُ الْأُسُودِ، وَأَجْوَدُ السُّحُبِ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى: زِيدٌ أَشْجَعُ مِنَ الْأُسُودِ، وَأَجْوَدُ مِنَ السُّحُبِ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (الْجُمُعَةِ: 11) وَ {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (هُودٍ: 45) وَ {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 14). أَيْ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِرَازِقٍ، وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ تَسَمَّى بِحَاكِمٍ، كَذَا قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّعْدِيُّ. قَالَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ: الَّذِي تَقَرَّرَ عَنِ الشُّيُوخِ أَنَّ " أَفْعَلَ " هَذِهِ لَا تُضَافُ إِلَّا وَيَكُونُ الْمُضَافُ بَعْضَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ: هَذَا الْفَرَسُ أَسْبَقُ الْحَمِيرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضَ الْحَمِيرِ، وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبَصْرِيُّونَ مَنْعَ " زَيْدٌ أَفْضَلُ إِخْوَتِهِ "، وَأَجَازُوا " أَفْضَلُ الْإِخْوَةِ "، إِلَّا إِذَا أُخْرِجَتْ عَنْ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ قَدْ يَجُوزُ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِهِمْ. - (الثَّانِيَةُ): إِذَا ذُكِرَ بَعْدَ " أَفْعَلَ " جِنْسُهُ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْ آحَادِ جِنْسِهِ، وَجَبَ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: زِيدٌ أَحْسَنُ الرِّجَالِ، وَأَحْسَنُ رَجُلٍ قَالَ تَعَالَى:....، وَإِذَا ذُكِرَ بَعْدَ مَا هُوَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ، وَجَبَ نَصْبُهُ عَلَى التَّمْيِيزِ، نَحْوُ: زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهًا، وَأَغْزَرُ عِلْمًا. وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النِّسَاءِ: 77) وَقَوْلُهُ: {أَزْكَى طَعَامًا} (الْكَهْفِ: 19) فَقَدْ أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ جِنْسِهِ وَانْتَصَبَ. وَقَدْ تَأَوَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا حَتَّى رَجَعُوا بِهِ إِلَى جَعْلِ " أَشَدَّ " لِغَيْرِ الْخَشْيَةِ، فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 77)، " أَيْ مِثْلِ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ، أَوْ مِثْلِ قَوْمٍ أَشَدَّ خَشْيَةً مِنْ أَهْلِ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يُحْمَلُ مَا خَالَفَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ. - (الثَّالِثَةُ): الْأَصْلُ فِيهِ الْأَفْضَلِيَّةُ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ، وَأَشْكَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} (الزُّخْرُفِ: 48) لِأَنَّ مَعْنَاهُ: مَا مِنْ آيَةٍ مِنَ التِّسْعِ إِلَّا وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَاضِلَةً وَمَفْضُوْلَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ الْغَرَضَ وَصْفُهُنَّ بِالْكِبَرِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْعَادَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ فِي الْفَضْلِ التَّفَاوُتَ الْيَسِيرَ، أَنْ تَخْتَلِفَ آرَاءُ النَّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا، وَرُبَّمَا اخْتَلَفَ آرَاءُ الْوَاحِدِ فِيهَا، كَقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لَاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ *** مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يُهْدَى بِهَا السَّارِي وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْأَعْلَى أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا عِنْدَهُمْ، وَقْتَ حُصُولِهَا لِأَنَّ لِمُشَاهَدَةِ الْآيَةِ فِي النَّفْسِ أَثَرًا عَظِيمًا لَيْسَ لِلْغَائِبِ عَنْهَا. - (الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَا يَنْبَنِي مِنَ الْعَاهَاتِ، فَلَا يُقَالُ: مَا أَعْوَرَ هَذِهِ الْفَرَسَ! وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} (الْإِسْرَاءِ: 72) فَفِيهِ وَجْهَانِ: - أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْقَلْبِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَهُوَ مَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، لَا مِنْ عَمَى الْبَصَرِ الَّذِي يَحْجُبُ الْمَرْئِيَّاتِ عَنْهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِبَيَانِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الْحَجِّ: 46) وَعَلَى هَذَا فَالْأَوَّلُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَالثَّانِي أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ فَقْدِ الْبَصِيرَةِ. - وَالثَّانِي أَنَّهُ مِنْ عَمَى الْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى مِنَ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُ يُحْشَرُ أَعْمَى، فَلَا يَكُونُ " أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ ". وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْأَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ عَمَى الْقَلْبِ، وَالثَّانِي عَلَى فَقْدِ الْبَصِيرَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو عَمْرٍو، فَأَمَالَ الْأَوَّلَ، وَتَرَكَ الْإِمَالَةَ فِي الثَّانِي، لَمَّا كَانَ اسْمًا، وَالِاسْمُ أَبْعَدُ مِنَ الْإِمَالَةِ. - الْخَامِسَةُ: يَكْثُرُ حَذْفُ الْمَفْضُولِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَكَانَ أَفْعَلُ خَبَرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (الْبَقَرَةِ: 61). {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} (الْبَقَرَةِ: 282). {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} (آلِ عِمْرَانَ: 36). {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آلِ عِمْرَانَ: 36). {إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (النَّحْلِ: 95). {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الْكَهْفِ: 46). {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} (مَرْيَمَ: 73). {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} (مَرْيَمَ: 75). وَقَدْ يُحْذَفُ الْمَفْضُولُ وَأَفْعَلُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (طه: 7). - (السَّادِسَةُ): قَدْ يَجِيءُ مُجَرَّدًا مِنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فَيَكُونُ لِلتَّفْضِيلِ لَا لِلْأَفْضَلِيَّةِ. ثُمَّ هُوَ تَارَةً يَجِيءُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (النَّجْمِ: 32). وَمُؤَوَّلًا بِصِفَةٍ مُشَبَّهَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الرُّومِ: 27). فَـ " أَعْلَمُ " هَهُنَا بِمَعْنَى " عَالِمٌ بِكُمْ "، إِذْ لَا مُشَارِكَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ، " وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ " بِمَعْنَى هَيِّنٍ، إِذْ لَا تَفَاوُتَ فِي نِسْبَةِ الْمَقْدُورَاتِ إِلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} (فُصِّلَتْ: 40). وَقَوْلُهُ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} (الْفُرْقَانِ: 24) ثُمَّ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا الْتِزَامُ الْإِفْرَادِ وَالتَّذْكِيرِ، إِذَا كَانَ مَا هُوَ لَهُ مَجْمُوعًا لَفْظًا وَمَعْنًى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (الْفُرْقَانِ: 24). أَوْ لَفْظًا لَا مَعْنًى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 47) وَ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} (طه: 104). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} (الْحَجِّ: 13) فَمَعْنَاهُ الضَّرَرُ بِعِبَادَتِهِ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: {أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} (الْحَجِّ: 13) وَلَا نَفْعَ مِنْ قَبْلِهِ أَلْبَتَّةَ؟ قِيلَ: لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: {لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} تَبْعِيدٌ لِنَفْعِهِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَا لَمْ يَصِحَّ فِي اعْتِقَادِهِمْ بِكَوْنِهِ. " هَذَا بَعِيدٌ " جَازَ الْإِخْبَارُ بِـ " بُعْدِ " نَفْعِ الْوَثَنِ، وَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (ق: 3). - (السَّابِعَةُ) " أَفْعَلُ " فِي الْكَلَامِ عَلَى أَنْوَاعٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: 1- مُضَافٍ أَفْعَلُ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (التِّينِ: 8). 2- وَمُعَرَّفٍ بِاللَّامِ أَفْعَلُ فِي الْكَلَامِ نَحْوُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (الْأَعْلَى: 1) وَ {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (الْمُنَافِقُونَ: 8). 3- وَخَالٍ مِنْهُمَا، وَيَلْزَمُ اتِّصَالُهُ بِـ " مِنْ " الَّتِي لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ أَفْعَلُ فِي الْكَلَامِ جَارَّةً لِلْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا} (الْكَهْفِ: 34). وَقَدْ يُسْتَغْنَى بِتَقْدِيرِهَا عَنْ ذِكْرِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الْكَهْفِ: 34). وَيَكْثُرُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ خَبَرًا كَقَوْلِهِ: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الْأَعْلَى: 17). وَحَيْثُ أُضِيفَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى جَمْعٍ مُعَرَّفٍ، نَحْوُ: " أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ "، وَلَا يَجُوزُ " زَيْدٌ أَفْضَلُ رَجُلٍ "، وَلَا " أَفْضَلُ رِجَالٍ "، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَمَاعَةٌ مَجْهُولَةٌ يُفَضِّلُهَا، وَإِنَّمَا الْفَائِدَةُ فِي أَنْ تَقُولَ: " أَفْضَلُ الرِّجَالِ ". فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} (التِّينِ: 5) فَجَوَابُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَيْهِ تَقْدِيرًا، بَلِ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَحْذُوفٌ، وَقَامَتْ صِفَتُهُ مَقَامَهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: " أَسْفَلَ قَوْمٍ سَافِلِينَ "، وَلَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى اسْمِ الْجَمْعِ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا، نَحْوُ: أَفْضَلُ النَّاسِ وَالْقَوْمِ، وَأَفْضَلُ نَاسٍ وَأَفْضَلُ قَوْمٍ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ أَجَازُوا تَنْكِيرَ هَذَا وَلَمْ يُجِيزُوا تَكَرُّرَ ذَلِكَ فِي الْجَمْعِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ " أَفْضَلُ الْقَوْمِ " لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الْجُمُوعِ، بَلْ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ، فَخَفَّفُوهُ بِتَرْكِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الثَّانِيَةِ، إِذَا كَانَ " أَفْعَلُ " بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، أَوْ مُضَافًا جَازَ تَثْنِيَتُهُ وَجَمْعُهُ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 111) وَ {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (الْكَهْفِ: 103). وَقَالَ فِي الْمُفْرَدِ: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} (الشَّمْسِ: 12). وَقَالَ فِي الْجَمْعِ: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} (الْأَنْعَامِ: 123) وَ {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} (هُودٍ: 27). وَتَقُولُ فِي الْمُؤَنَّثِ " هَذِهِ الْفُضْلَى " قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (الْمُدَّثِّرِ: 35)، {فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} (طه: 75). وَحُكْمُ " فَعَلَى " حُكْمُ " أَفْعَلَ " لَا يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِ " مِنْ " إِلَّا مُضَافًا أَوْ مُعَرَّفًا بِأَلْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) فَقَالُوا: إِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ " مِنْ " أَيْ وَأُخَرُ مِنْهَا مُتَشَابِهَاتٌ
تَنْبِيهٌ: لَفَظُ: "سَوَاءٍ" فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ سَوَاءٌ: أَصْلُهُ بِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ يَجْرِي عَلَيْهِ، يُقَالُ: اسْتَوَى اسْتِوَاءً وَسَاوَاهُ مُسَاوَاةً لَا غَيْرَ، فَإِذَا وَقَعَ صِفَةً كَانَ بِمَعْنَى مُسْتَوٍ، وَلِهَذَا تَقُولُ: هُمَا سَوَاءٌ، هُمْ سَوَاءٌ، كَمَا تَقُولُ: هُمَا عَدْلٌ، وَهُمْ عَدْلٌ، وَالسَّوَاءُ التَّامُّ، وَمِنْهُ دِرْهَمٌ سَوَاءٌ أَيْ تَامٌّ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} (فُصِّلَتْ: 10) أَيْ مُسْتَوِيَاتٍ، وَمَنْ نَصَبَ فَعَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ اسْتَوَتِ اسْتِوَاءً، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ، وَجَوَّزَ غَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّكِرَةِ. وَيَجِيءُ السَّوَاءُ بِمَعْنَى الْوَسَطِ كَقَوْلِهِ: {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} (الصَّافَّاتِ: 55)، وَبِمَعْنَى " قَصْدٍ " كَقَوْلِهِ: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (الْبَقَرَةِ: 108)، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى: قَصْدَ السَّبِيلِ، وَبِمَعْنَى الْعَدْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 64) أَيْ عَدْلٍ، وَهُوَ الْحَقُّ. قَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ: وَسَوَاءٌ لَا يَرْفَعُ إِلَّا الْمُضْمَرَ، وَلَا يَرْفَعُ الظَّاهِرَ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُضْمَرِ فِي سَوَاءٍ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِسَوَاءٍ، وَهُوَ مِمَّا جَازَ فِي الْمَعْطُوفِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُفَسِّرُ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولِهَا. وَلِهَذَا تَوَزَّعَ الْكَلَامُ عَلَى حَسَبِ مَوَاقِعِهَا، وَتَرَجَّحَ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (سَبَأٍ: 24) فَاسْتُعْمِلَتْ عَلَى فِي جَانِبِ الْحَقِّ، وَ " فِي " فِي جَانِبِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ كَأَنَّهُ مُسْتَعْلٍ يَرْقُبُ نَظَرُهُ كَيْفَ شَاءَ، ظَاهِرَةٌ لَهُ الْأَشْيَاءُ، وَصَاحِبُ الْبَاطِلِ كَأَنَّهُ مُنْغَمِسٌ فِي ظَلَامٍ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ تَوَجَّهَ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} (الْكَهْفِ: 19) فَعَطَفَ هَذِهِ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ بِالْفَاءِ، ثُمَّ لَمَّا انْقَطَعَ نِظَامُ التَّرْتِيبِ عَطَفَ بِالْوَاوِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَتَلَطَّفْ} (الْكَهْفِ: 19) إِذْ لَمْ يَكُنِ التَّلَطُّفُ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالطَّعَامِ، كَمَا كَانَ الْإِتْيَانُ مِنْهُ مُرَتِّبًا عَلَى التَّوَجُّهِ فِي طَلَبِهِ، وَالتَّوَجُّهُ فِي طَلَبِهِ مُتَرَتِّبًا عَلَى قَطْعِ الْجِدَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنْ مُدَّةِ اللُّبْثِ بِتَسْلِيمِ الْعِلْمِ لَهُ سُبْحَانَهُ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التَّوْبَةِ: 60) الْآيَةَ فَعَدَلَ عَنِ اللَّامِ إِلَى " فِي " فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ إِيذَانًا بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ بِاللَّامِ، لِأَنَّ فِي لِلْوِعَاءِ، فَنَبَّهَ بِاسْتِعْمَالِهَا عَلَى أَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ بِأَنْ يَجْعَلُوا مَظِنَّةً لِوَضْعِ الصَّدَقَاتِ فِيهِمْ، كَمَا يُوضَعُ الشَّيْءُ فِي وِعَائِهِ مُسْتَقِرًّا فِيهِ. وَفِي تَكْرِيرِ حَرْفِ الظَّرْفِ دَاخِلًا عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِهِ عَلَى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ: (وَفِي الرِّقَابِ) وَلَمْ يَقُلْ وَلِلرِّقَابِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِيهِ أَقْرَبُ. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} (يُوسُفَ: 100) فَإِنَّهُ يُقَالُ: " أَحْسَنَ بِي وَإِلَيَّ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي وَأَلْيَقُهَا بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِي "، لِأَنَّهُ إِحْسَانٌ دَرَجَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الْغَايَةَ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا. وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) وَلَمْ يَقُلْ " عَلَى " كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّ " عَلَى " لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَالْمَصْلُوبُ لَا يُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، وَإِنَّمَا يُصْلَبُ فِي وَسَطِهَا فَكَانَتْ " فِي " أَحْسَنَ مِنْ " عَلَى ". وَقَالَ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 26) وَلَمْ يَقُلْ: كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْفَنَاءِ لَيْسَ هُنَاكَ حَالُ الْقَرَارِ وَالتَّمْكِينِ. وَقَالَ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (الْفُرْقَانِ: 63) وَقَالَ: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (الْإِسْرَاءِ: 37)، (لُقْمَانَ: 18)، وَمَا قَالَ " عَلَى الْأَرْضِ "، وَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ الْعِبَادَ بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُمْ عَلَيْهَا مُسْتَوْقِرُونَ. وَلَمَّا أَرْشَدَهُ وَنَهَاهُ عَنْ فِعْلِ التَّبَخْتُرِ، قَالَ: وَلَا تَمْشِ فِيهَا مَرَحًا، بَلِ امْشِ عَلَيْهَا هَوْنًا. وَقَالَ تَعَالَى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (التَّوْبَةِ: 61). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَالَ: {عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (الْمَاعُونِ: 5) وَلَمْ يَقُلْ: " فِي صَلَاتِهِمْ ". وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فُصِّلَتْ: 5) فَلَوْ سَقَطَتْ " مِنْ " جَازَ كَوْنُ الْحِجَابِ فِي الْوَسَطِ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ. وَإِذَا أَتَيْتَ " بِمِنْ " أَفَادَتْ أَنَّ الْحِجَابَ ابْتِدَاءٌ مِنْ أَوَّلِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ " مِنْ "، وَانْتَهَى إِلَى غَايَتِهِ، فَكَأَنَّ الْحِجَابَ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ. وَقَالَ: كَرَّرَ الْجَارَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 7) لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى شِدَّةِ الْخَتْمِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حِينَ اسْتَجَدَّ لَهُ تَعْدِيَةً أُخْرَى. وَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ إِحْصَاؤُهُ، وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَلْنَذْكُرْ مُهِمَّاتِ مَطَالِبِهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ.
أَصْلُهَا الِاسْتِفْهَامُ، وَهُوَ طَلَبُ الْإِفْهَامِ. وَتَأْتِي لِطَلَبِ التَّصَوُّرِ، وَالتَّصْدِيقِ، بِخِلَافِ " هَلْ " فَإِنَّهَا لِلتَّصَوُّرِ خَاصَّةً، وَالْهَمْزَةُ أَغْلَبُ دَوَرَانًا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ أُمَّ الْبَابِ. وَاخْتَصَّتْ بِدُخُولِهَا عَلَى الْوَاوِ، نَحْوُ: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا} (الْبَقَرَةِ: 100). وَعَلَى الْفَاءِ، نَحْوُ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} (الْأَعْرَافِ: 97). وَعَلَى ثُمَّ، نَحْوُ: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} (يُونُسَ: 51). وَ " هَلْ " أَظْهَرُ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالْفِعْلِ مِنَ الْهَمْزَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 80) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (الْمَائِدَةِ: 91) وَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هُودٍ: 14) فَذَلِكَ لِتَأْكِيدِ الطَّلَبِ لِلْأَوْصَافِ الثَّلَاثِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ أَدَلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبِ وَثُبُوتِهِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى طَلَبِهِ مِنْ " فَهَلْ تَشْكُرُونَ " " وَهَلْ تُسْلِمُونَ " لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُعْدَلُ بِالْهَمْزَةِ عَنْ أَصْلِهَا، فَيُتَجَوَّزُ بِهَا عَنِ النَّفْيِ، وَالْإِيجَابِ، وَالتَّقْرِيرِ، وَالتَّوْبِيخِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي السَّالِفَةِ فِي بَحْثِ الِاسْتِفْهَامِ مَشْرُوحَةً، فَانْظُرْهُ فِيهِ
مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَى رَأَيْتَ وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى " رَأَيْتَ " امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ، أَوِ الْقَلْبِ، وَصَارَتْ بِمَعْنَى " أَخْبِرْنِي "، كَقَوْلِكَ: أَرَأَيْتَكَ وَزَيْدًا مَا صَنَعَ؟ فِي الْمَعْنَى تَعَدَّى بِحَرْفٍ وَفِي اللَّفْظِ تَعَدَّى بِنَفْسِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} (مَرْيَمَ: 77). {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} (الْعَلَقِ: 9- 10). {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (الْمَاعُونِ: 1)
مَسَالَةٌ دُخُولُ الْهَمْزَةِ عَلَى لَمْ وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى لَمْ أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ، نَحْوُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الْفُرْقَانِ: 45). (وَالثَّانِي) التَّعَجُّبُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، كَقَوْلِكَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى فُلَانٍ يَقُولُ كَذَا، وَيَعْمَلُ كَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ مِنْهُ، وَكَيْفَ كَانَ فَهِيَ تَحْذِيرٌ.
أَمْ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ حَرْفُ عَطْفٍ نَائِبٌ عَنْ تَكْرِيرِ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ، نَحْوُ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ وَقِيلَ: إِنَّمَا تُشْرِكُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ كَمَا تُشْرِكُ بَيْنَهَا " أَوْ ". وَقِيلَ: فِيهَا مَعْنَى الْعَطْفِ. وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ كَالْأَلِفِ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ لِأَجْلِ مَعْنَى الْعَطْفِ. وَقِيلَ: هِيَ " أَوْ " أُبْدِلَتْ مِنَ الْوَاوِ، لِيُحَوَّلَ إِلَى مَعْنًى. يُرِيدُ إِلَى مَعْنَى " أَوْ ". وَهِيَ قِسْمَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ. فَالْمُتَّصِلَةُ مِنْ أَقْسَامِ أَمْ هِيَ الْوَاقِعَةُ فِي الْعَطْفِ، وَالْوَارِدُ بَعْدَهَا وَقَبْلَهَا كَلَامٌ وَاحِدٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ عَنِ التَّعْيِينِ، فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِأَيْ، وَشَرْطُهَا أَنْ تَتَقَدَّمَهَا هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَيَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُفْرَدًا أَوْ فِي تَقْدِيرِهِ. وَالْمُنْفَصِلَةُ مِنْ أَقْسَامِ أَمْ مَا فُقِدَ فِيهَا الشَّرْطَانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، وَتُقَدَّرُ بَلْ وَالْهَمْزَةُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي كَيْفِيَّةِ تَقْدِيرِ أَمِ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُنْفَصِلَةِ فِي ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ حَكَاهَا الصَّفَّارُ. - (أَحَدُهَا): أَنَّهَا تُقَدَّرُ بِهِمَا وَهِيَ بِمَعْنَاهُمَا، كَيْفِيَّةُ تَقْدِيرِ أَمِ الْمُنْفَصِلَةِ فَتُفِيدُ الْإِضْرَابَ عَمَّا قَبْلَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ كَـ (بَلْ)، وَالِاسْتِفْهَامَ عَمَّا بَعْدَهَا، وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تَسْتَفْهِمَ مُبْتَدِئًا كَلَامَكَ بِـ " أَمْ ". وَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ كَلَامٍ لِإِفَادَتِهَا الْإِضْرَابَ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: وَالْفَارِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " بَلْ " أَنَّ مَا بَعْدَ " بَلْ " مَنْفِيٌّ، وَمَا بَعْدَ " أَمْ " مَشْكُوكٌ فِيهِ. (وَالثَّانِي) أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ " بَلْ " خَاصَّةً، وَالِاسْتِفْهَامُ مَحْذُوفٌ بَعْدَهَا، كَيْفِيَّةُ تَقْدِيرِ أَمِ الْمُنْفَصِلَةِ وَلَيْسَتْ هِيَ مُفِيدَةُ الِاسْتِفْهَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ. (وَالثَّالِثُ) أَنَّهَا بِمَعْنَى الْهَمْزَةِ كَيْفِيَّةُ تَقْدِيرِ أَمِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْإِضْرَابُ مَفْهُومٌ مِنْ أَخْذِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ وَتَرْكِ الْأَوَّلِ. قَالَ الصَّفَّارُ: فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَرْفَ لَا يُعْطِي فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَبْقَى التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ الْأَخِيرُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِنَّهَا لَإِبِلٌ أَمْ شَاءٌ. وَيَلْزَمُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي حَذْفُ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ مِنْ مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الِاسْتِفْهَامِ، وَكَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ انْتَهَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَّصِلَةَ يَصِيرُ مَعَهَا الِاسْمَانِ بِمَنْزِلَةِ أَيْ، وَيَكُونُ مَا ذُكِرَ خَبَرًا عَنْ أَيْ، فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَالْمَعْنَى: أَيُّهُمَا عِنْدَكَ؟ وَالظَّرْفُ خَبَرٌ لَهُمَا. ثُمَّ الْمُتَّصِلَةُ تَكُونُ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ عَلَى مِثْلِهِ، نَحْوُ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يُوسُفَ: 39) أَيْ: أَيُّ الْمَعْبُودِينَ خَيْرٌ؟ وَفِي عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَأَوَّلَتَيْنِ بِالْمُفْرَدِ، نَحْوُ: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 72) أَيِ الْحَالُ هَذِهِ أَمْ هَذِهِ؟ وَالْمُنْقَطِعَةُ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى عَطْفِ الْجُمَلِ، وَهِيَ فِي الْخَبَرِ وَالِاسْتِفْهَامِ بِمَثَابَةِ " بَلْ " وَالْهَمْزَةِ، وَمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ التَّوْبِيخُ كَمَا كَانَ فِي الْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزُّخْرُفِ: 16) أَيْ بَلْ أَتَّخَذَ؟ لِأَنَّ الَّذِي قَبْلَهَا خَبَرٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا التَّوْبِيخُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَجَرَى عَلَى كَلَامِ الْعِبَادِ. وَقَوْلِهِ: {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (السَّجْدَةِ: 1- 2) ثُمَّ قَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} (السَّجْدَةِ: 3) تَقْدِيرُهُ: بَلْ أَيَقُولُونَ؟ كَذَا جَعَلَهَا سِيبَوَيْهِ مُنْقَطِعَةً لِأَنَّهَا بَعْدَ الْخَبَرِ. ثُمَّ وَجَّهَ اعْتِرَاضًا كَيْفَ يَسْتَفْهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ هَذَا؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ جَاءَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، يُرِيدُ أَنَّ فِي كَلَامِهِمْ يَكُونُ الْمُسْتَفْهِمُ مُحَقِّقًا لِلشَّيْءِ، لَكِنْ يُورِدُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يَخْشَى، لَكِنَّهُ أَرَادَ لَعَلَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رَجَائِكُمَا. وَقَوْلِهِ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزُّخْرُفِ: 16) تَقْدِيرُهُ بَلْ أَتَّخَذَ؟ بِهَمْزَةٍ مُنْقَطِعَةٍ لِلْإِنْكَارِ. وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى " بَلْ " مِنْ غَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (النَّمْلِ: 60) وَمَا بَعْدَهَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ. قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: وَلَا يَمْتَنِعُ عِنْدِي إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى " بَلْ " أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ} (الطُّورِ: 30) وَقَوْلِهِ: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (النَّمْلِ: 20). وَقَالَ الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} (الزُّخْرُفِ: 52) بِمَعْنَى " بَلْ " وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ، عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: وَقَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ " أَمْ "، وَحِينَئِذٍ تَمَّ الْكَلَامُ، وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ، وَالْأَصْلُ {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الزُّخْرُفِ: 51) أَمْ تُبْصِرُونَ؟ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ} (الزُّخْرُفِ: 52). قُلْتُ: فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ مُنْقَطِعَةً، وَعَلَى الثَّانِي مُتَّصِلَةً. وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ، وَإِنَّ التَّقْدِيرَ: أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ! وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُمْ عَنِ اسْتِوَاءِ عِلْمِهِ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَدْرَكَهُ الشَّكُّ فِي تَبَصُّرِهِمْ بَعْدَ مَا مَضَى كَلَامُهُ عَلَى التَّقْرِيرِ، وَهُوَ مُثْبَتٌ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ " بَلَى "، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الشَّكُّ فِي تَبَصُّرِهِمْ قَالَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ}. وَسَأَلَ ابْنُ طَاهِرٍ شَيْخَهُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ الرَّمَّاكِ: لِمَ لَمْ يَجْعَلْ سِيبَوَيْهِ أَمْ مُتَّصِلَةً؟ أَيْ " أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ "؟ أَيْ: أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكُمْ؟ فَلَمْ يُحْرِ جَوَابًا، وَغَضِبَ وَبَقِيَ جُمُعَةً لَا يُقَرِّرُ حَتَّى اسْتَعْطَفَهُ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، فَاسْتَفْهَمَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ} فَأَضْرَبَ عَنِ الْأَوَّلِ وَاسْتَفْهَمَ، كَذَلِكَ: أَزْيَدٌ عِنْدَكَ أَمْ لَا؟. (وَالثَّانِي): أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِبْصَارُ وَعَدَمُهُ مُتَعَادِلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَدْءِ بِالنَّفْيِ مَعْنًى، فَلَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً. وَقَدْ تَحْتَمِلُ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْقَطِعَةَ، كَمَا قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ} (الْبَقَرَةِ: 108). قَالَ الْوَاحِدِيُّ: إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ قَبْلَهُ اسْتِفْهَامًا رُدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَلَمْ تَعْلَمْ} (الْبَقَرَةِ: 106) وَإِنْ شِئْتَ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُسْتَأْنَفًا بِهَا الِاسْتِفْهَامُ، فَيَكُونُ اسْتِفْهَامًا مُتَوَسِّطًا فِي اللَّفْظِ، مُبْتَدَأً فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} (الزُّخْرُفِ: 51) الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} (الزُّخْرُفِ: 52) انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ إِنَّهَا هَهُنَا مُنْقَطِعَةٌ إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ هَمْزَةٌ تَقَعُ مَوْقِعَهَا، وَمَوْقِعُ " أَمْ " " أَيُّهُمَا " وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: (أَلَمْ تَعْلَمْ) لَيْسَتْ مِنْ " أَمْ " فِي شَيْءٍ، وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا؟ فَخَرَجَ بِـ " أَمْ " مِنْ كَلَامٍ إِلَى آخَرَ. وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى " أَوْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ} (الْمُلْكِ: 16- 17). وَقَوْلِهِ: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} (الْإِسْرَاءِ: 68- 69). وَمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 108) أَيْ تُرِيدُونَ؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} (الْبَقَرَةِ: 211). وَقَوْلِهِ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النِّسَاءِ: 54) أَيْ: أَيَحْسُدُونَ؟ وَقَوْلِهِ: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} (ص: 62- 63) أَيْ أَزَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} (الطُّورِ: 39) أَيْ أَلَهُ؟ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} أَيْ: أَتَسْأَلُهُمْ أَجْرًا؟ وَقَوْلِهِ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ} (الْكَهْفِ: 9) قِيلَ: أَيْ أَظَنَنْتَ هَذَا؟ وَمِنْ عَجَائِبِ رَبِّكِ مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَحَسِبْتَ؟ وَحَسِبْتَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ زَيْدًا خَرَجَ، بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ اعْلَمْ أَنَّ زَيْدًا خَرَجَ، فَعَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: اعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ. 50 وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} (الزُّخْرُفِ: 16) تَقْدِيرُهُ: بَلْ " أَتَّخَذَ! " بِهَمْزَةٍ مَقْطُوعَةٍ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ هَمْزَةَ وَصْلٍ لَصَارَ إِثْبَاتًا، تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتْ " أَمِ " الْمُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى " بَلْ " وَحْدَهَا دُونَ الْهَمْزَةِ، وَمَا بَعْدَ " بَلْ " مُتَحَقِّقٌ فَيَصِيرُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ مُتَحَقِّقًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ
مَسْأَلَةٌ: ضَرُورَةُ تَقَدُّمِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى "أَمْ" "أَمْ" لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا اسْتِفْهَامٌ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَالَّذِي فِي مَعْنَاهُ التَّسْوِيَةُ، فَإِنَّ الَّذِي يَسْتَفْهِمُ، اسْتَوَى عِنْدَهُ الطَّرَفَانِ، وَلِهَذَا يَسْأَلُ، وَكَذَا الْمَسْئُولُ اسْتَوَى عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ تَقَعُ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ وَبَيْنَ جُمْلَتَيْنِ، وَالْجُمْلَتَانِ يَكُونَانِ اسْمِيَّتَيْنِ وَفِعْلِيَّتَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَادِلَ بَيْنَ اسْمِيَّةٍ وَفِعْلِيَّةٍ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الِاسْمِيَّةُ بِمَعْنَى الْفِعْلِيَّةِ، أَوِ الْفِعْلِيَّةُ بِمَعْنَى الِاسْمِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (الْأَعْرَافِ: 193) أَيْ أَمْ صَمَتُّمْ. وَقَوْلِهِ: {أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ} (الزُّخْرُفِ: 51- 52) لِأَنَّهُمْ إِذَا قَالُوا لَهُ: أَنْتَ خَيْرٌ، كَانُوا عِنْدَهُ بُصَرَاءَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنْتُمْ بُصَرَاءُ؟ قَالَ الصَّفَّارُ: إِذَا كَانَتِ الْجُمْلَتَانِ مُوجَبَتَيْنِ قَدَّمْتَ أَيَّهُمَا شِئْتَ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَنْفِيَّةً أَخَّرْتَهَا، فَقُلْتَ: أَقَامَ زَيْدٌ أَمْ لَمْ يَقُمْ؟ وَلَا يَجُوزُ: أَلَمْ يَقُمْ أَمْ لَا؟ وَلَا سَوَاءَ عَلَيَّ أَلَمْ تَقُمْ أَمْ قُمْتَ؟ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَوَاءٌ عَلَيَّ أَقُمْتَ أَمْ لَا، يُرِيدُونَ أَمْ لَمْ تَقُمْ، فَيَحْذِفُونَ لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا: سَوَاءٌ عَلَيَّ أَمْ قُمْتَ، لِأَنَّهُ حُذِفَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَحُمِلَتْ سَائِرُ الْمَوَاضِعِ الْمَنْفِيَّةِ عَلَى هَذَا. قَالَ: فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا الِاسْتِفْهَامُ أَوِ التَّسْوِيَةُ بِخِلَافِ " أَوْ " فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُهَا كُلُّ كَلَامٍ إِلَّا التَّسْوِيَةَ، فَلَا تَقُولُ: سَوَاءٌ عَلَيَّ قُمْتَ أَوْ قَعَدْتَ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ " سَوَاءً ".
مَسْأَلَةٌ: [السُّؤَالُ بِـ " أَوْ " غَيْرُ السُّؤَالِ بِـ " أَمْ "] قَالَ الصَّفَّارُ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ السُّؤَالَ بِـ (أَوْ) غَيْرُ السُّؤَالِ بِـ " أَمْ " حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّ ثَمَّ شَيْءٌ. فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ فَجَوَابُ هَذَا: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَجَوَابُ " أَوْ " نَعَمْ، أَوْ لَا، وَلَوْ قُلْتَ فِي جَوَابِ الْأَوَّلِ: نَعَمْ، أَوْ لَا كَانَ مُحَالًا لِأَنَّكَ مُدَّعٍ أَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، فِي جَوَابِ: أَقَامَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو؟ قُلْتُ: يَكُونُ تَطَوُّعًا بِمَا لَا يَلْزَمُ وَلَا قِيَاسَ يَمْنَعُهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ: وَضْعُ " أَمْ " لِلْعِلْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، بِخِلَافِ " أَوْ " فَأَنْتَ مَعَ " أَمْ " عَالِمٌ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا عِنْدَهُ، مُسْتَفْهِمٌ عَنِ التَّعْيِينِ، وَمَعَ " أَوْ " مُسْتَفْهِمٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ فِي الْخَبَرِ، فَإِذَا قُلْتَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَوْ عَمْرٌو؟ فَمَعْنَاهُ هَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَكَ؟ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ جَوَابُهُ نَعَمْ، أَوْ لَا، مُسْتَقِيمًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَقِيمًا فِي " أَمْ " لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنِ التَّعْيِينِ.
نَوْعَانِ: (الْأَوَّلُ) أَنْ تَدُلَّ عَلَى إِنْشَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِ، أَنْوَاعُ إِذَنْ بِحَيْثُ لَا يُفْهَمُ الِارْتِبَاطُ مِنْ غَيْرِهَا، نَحْوُ: أَزُورُكَ، فَتَقُولُ: إِذَنْ أُكْرِمَكَ، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَجْهِ عَامِلَةٌ تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، فَتَنْصِبُ الْمُضَارِعَ الْمُسْتَقْبَلَ إِذَا صُدِّرَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ، وَلَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ حَالًا. (وَالثَّانِي) أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِجَوَابٍ ارْتَبَطَ بِمُقَدَّمٍ، أَنْوَاعُ إِذَنْ أَوْ مُنَبِّهَةً عَلَى سَبَبٍ حَصَلَ فِي الْحَالِ وَهِيَ فِي الْحَالِ غَيْرُ عَامِلَةٍ، لِأَنَّ الْمُؤَكِّدَاتِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَالْعَامِلَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، نَحْوُ: إِنْ تَأْتِنِي إِذَنْ آتِكَ، وَاللَّهِ إِذَنْ لَأَفْعَلَنَّ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَفُهِمَ الِارْتِبَاطُ. وَتَدْخُلُ هَذِهِ عَلَى الِاسْمِيَّةِ، نَحْوُ: أَزُورُكَ فَتَقُولُ: إِذَنْ أَنَا أُكْرِمُكَ. وَيَجُوزُ تَوَسُّطُهَا وَتَأَخُّرُهَا. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (الْبَقَرَةِ: 145) فَهِيَ مُؤَكِّدَةٌ لِلْجَوَابِ وَتَرْبُطُهُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَهَا مَعْنًى ثَالِثًا، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ " إِذِ " الَّتِي هِيَ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ، وَمِنْ جُمْلَةٍ بَعْدَهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، لَكِنْ حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ تَخْفِيفًا، وَأُبْدِلَ التَّنْوِينُ مِنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ حِينَئِذٍ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ النَّاصِبَةُ الْمُضَارِعَ، لِأَنَّ تِلْكَ تَخْتَصُّ بِهِ، وَكَذَلِكَ مَا عَمِلَتْ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ، وَهَذِهِ لَا تَخْتَصُّ بِهِ، بَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي، نَحْوُ: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} (النِّسَاءِ: 67) وَ {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} (الْإِسْرَاءِ: 100) وَ {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} (الْإِسْرَاءِ: 75). وَعَلَى الِاسْمِ، نَحْوُ: إِنْ كُنْتُ ظَالِمًا فَإِذَنْ حُكْمُكَ فِيَّ مَاضٍ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 42). وَرَامَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ جَعْلَهَا فِيهِ بِمَعْنَى " بَعْدَ ". وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَذْكُرْهُ النُّحَاةُ، لَكِنَّهُ قِيَاسُ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ قَدْ تُحْذَفُ الْجُمْلَةُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا " إِذْ "، وَيُعَوِّضُ عَنْهَا التَّنْوِينُ كَيَوْمِئِذٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا حَذْفَ الْجُمْلَةِ مِنْ " إِذًا " وَتَعْوِيضَ التَّنْوِينِ عَنْهَا. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ فِي التَّذْكِرَةِ: ذَكَرَ لِي عَلَمُ الدِّينِ الْبَلْقِينِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ تَقِيَّ الدِّينِ بْنَ رَزِينٍ، كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ " إِذَنْ " عِوَضٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِقَوْلٍ نَحْوِيٍّ انْتَهَى. وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْخُوَيِّيِّ: وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لِمَنْ قَالَ: " أَنَا آتِيكَ إِذَنْ أُكْرِمُكَ " بِالرَّفْعِ عَلَى مَعْنَى " إِذَا أَتَيْتَنِي أُكْرِمُكَ " فَحَذَفَ أَتَيْتَنِي وَعَوَّضَ التَّنْوِينُ عَنِ الْجُمْلَةِ، فَسَقَطَتِ الْأَلِفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَالَ: وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ اتِّفَاقُ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِثَالِ مَنْصُوبٌ بِـ " إِذَنْ " لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَا إِذَا كَانَتْ حَرْفًا نَاصِبًا لِلْفِعْلِ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ رَفْعُ الْفِعْلِ بَعْدَهُ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ " إِذِ " الزَّمَانِيَّةُ مُعَوِّضًا عَنْ جُمْلَتِهِ التَّنْوِينُ، كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ مَا بَعْدَهَا، نَحْوُ: مَنْ يَزُرْنِي أُكْرِمْهُ. يُرِيدُ بِذَلِكَ الشَّرْطِيَّةَ، وَلَا يُمْنَعُ مَعَ ذَلِكَ الرَّفْعُ بِهَا إِذَا أُرِيدَ الْمَوْصُولَةُ، نَحْوُ: مَنْ يَزُرْنِي أُكْرِمْهُ. قِيلَ: وَلَوْلَا قَوْلُ النُّحَاةِ إِنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ، وَإِنَّ " إِذَنْ " عَامِلَةٌ فِي الْمُضَارِعِ لَقِيلَ: إِنَّ " إِذَنْ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ مَعْنَاهَا تَقْيِيدُ مَا بَعْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ حَالٍ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَا أَزُورُكَ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: إِذَنْ أُكْرِمَكَ، هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا أُكْرِمُكَ زَمَنَ أَوْ حَالَ أَوْ عِنْدَ زِيَارَتِكَ لِي. ثُمَّ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ مَعْنَاهَا الْجَوَابُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: " إِذَنْ يَقُومَ زَيْدٌ " ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ تُجِيبَ بِهِ أَحَدًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (الشُّعَرَاءِ: 20) عَلَى أَنَّهُ لِجَوَابٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنَّهُ أَجَابَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 19) أَيْ: بِأَنْعُمِنَا، فَأَجَابَ: لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ كُفْرًا لِلنِّعْمَةِ كَمَا زَعَمْتَ، بَلْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا غَيْرُ عَارِفٍ بِأَنَّ الْوَكْزَةَ تَقْضِي، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ بَعْضِهِمْ: (وَأَنَا مِنَ الْجَاهِلِينَ). وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ: خَيْرُ النَّاسِ خُلُقًا وَخَيْرُهُمْ قِدَامَا *** فَجَمَعَ بَيْنَ اللَّامِ وَبَيْنَ الْجَوَابِ فَإِذَنْ كَذَلِكَ فَهُوَ لِتَأَكُّدِ الْجَوَابِ، كَمَا إِنَّ " أَلَّا " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} (الْحَدِيدِ: 29) دَخَلَتْ لِتَوْكِيدِ النَّفْيِ قَالَهُ أَبُو الْفَتْحِ.
نَوْعَانِ ظَرْفٌ وَمُفَاجَأَةٌ. فَالَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ، نَحْوُ: خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبْعُ. وَتَجِيءُ اسْمًا وَحَرْفًا فَإِذَا كَانَتِ اسْمًا كَانَتْ ظَرْفَ مَكَانٍ، وَإِذَا كَانَتْ حَرْفًا كَانَتْ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي الدَّالَّةِ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ، كَمَا أَنَّ الْهَمْزَةَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، فَإِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ إِذَا ظَرْفَ مَكَانٍ، وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَهَا حَرْفًا، فَإِنْ قَدَّرْتَهَا حَرْفًا كَانَ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا، وَالتَّقْدِيرُ مَوْجُودٌ، وَإِنْ قَدَّرْتَهَا ظَرْفًا كَانَ الْخَبَرُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، كَمَا تَقُولُ: عِنْدِي زَيْدٌ، فَتُخْبِرُ بِظَرْفِ الْمَكَانِ عَنِ الْجُثَّةِ، وَالْمَعْنَى حَيْثُ خَرَجْتُ فَهُنَاكَ زَيْدٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَرْفَ زَمَانٍ، لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الزَّمَانِ خَبَرًا عَنِ الْجُثَّةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ لِلزَّمَانِ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مَكَانًا، وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الرُّومِ: 48) فَإِذَا الْأُولَى ظَرْفِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ مُفَاجَأَةٌ. وَتَجِيءُ ظَرْفَ زَمَانٍ، وَحَقُّ زَمَانِهَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا، نَحْوُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النَّصْرِ: 1). وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمَاضِي مِنَ الزَّمَانِ كَـ " إِذْ " كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} (آلِ عِمْرَانَ: 156) لِأَنَّ قَالُوا مَاضٍ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَقْبَلًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ} (النَّمْلِ: 18) {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} (الْأَنْعَامِ: 25) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} (الْكَهْفِ: 93) {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} (الْكَهْفِ: 96) {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} (الْكَهْفِ: 96) {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} (الْجُمُعَةِ: 11) لِأَنَّ الِانْفِضَاضَ وَاقِعٌ فِي الْمَاضِي. وَتَجِيءُ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النَّجْمِ: 1) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (اللَّيْلِ: 1- 2) وَالتَّقْدِيرُ: وَالنَّجْمِ هَاوِيًا، وَاللَّيْلِ غَاشِيًا، وَالنَّهَارِ مُتَجَلِّيًا، فَإِذَا ظَرْفُ زَمَانٍ، وَالْعَامِلُ فِيهِ اسْتِقْرَارُ مَحْذُوفٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا " أُقْسِمُ " الْمَحْذُوفُ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ تَقْدِيرَ الْعَامِلِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحَهُ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ، فَقَالَ: فِي الْقَوْلِ تَقْدِيرُ الْفِعْلِ فَإِنَّ إِذَا ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ فِعْلَ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّ " أُقْسِمُ " إِنْشَائِيٌّ فَهُوَ فِي الْحَالِ، وَ " إِذَا " لِمَا يُسْتَقْبَلُ فَيَأْبَى أَنْ يَعْمَلَ الْحَالُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِاخْتِلَافِ زَمَانِ الْعَامِلِ وَالْمَعْمُولِ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَقَامَهُ، أَيْ وَطُلُوعِ النُّجُومِ، وَمَجِيءِ اللَّيْلِ، لِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، فَالطُّلُوعُ حَالٌ وَلَا يَعْمَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ضَرُورَةَ أَنَّ زَمَانَ الْعَامِلِ زَمَانُ الْمَعْمُولِ. وَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ نَفْسُ الْمُقْسَمِ بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْمَلُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ قَبْلَ الظَّرْفِ، وَيَكُونَ قَدْ عَمِلَ فِيهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعَامِلُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَتَقْدِيرُهُ: وَالنَّجْمِ كَائِنًا إِذَا هَوَى، وَاللَّيْلِ كَائِنًا إِذَا يَغْشَى، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ " كَائِنًا " أَلَّا يَكُونَ مَنْصُوبًا بِعَامِلٍ إِذْ لَا يَصِحُّ أَلَّا يَكُونَ مَعْمُولًا لِشَيْءٍ مِمَّا فَرَضْنَاهُ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا. وَأَيْضًا فَيَكُونُ الْمُقْسَمُ بِهِ جُثَّةً، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ لَا تَكُونُ أَحْوَالًا عَنِ الْجُثَثِ كَمَا لَا تَكُونُ أَخْبَارًا لَهُنَّ: فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النَّجْمِ: 29) الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ فِعْلُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ: أُقْسِمُ بِالنَّجْمِ وَقْتَ هُوِيِّهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ فَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّ الزَّمَانَيْنِ لَمَّا اشْتَرَكَا فِي الْوُقُوعِ الْمُحَقَّقِ نَزَلَا مِنْزِلَةَ الزَّمَانِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ عَطْفُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ} (الْفُرْقَانِ: 10) ثُمَّ قَالَ: {وَيَجْعَلْ} (الْفُرْقَانِ: 10). وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَوَابِ الْفَارِسِيِّ لَمَّا سَأَلَهُ أَبُو الْفَتْحِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} (الزُّخْرُفِ: 39) مُسْتَشْكِلًا إِبْدَالَ " إِذْ " مِنَ " الْيَوْمَ " فَقَالَ: " الْيَوْمَ " حَالٌ، " وَظَلَمْتُمْ " فِي الْمَاضِي، فَقَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ مُتَّصِلَتَانِ، وَإِنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، فَكَأَنَّ " الْيَوْمَ " مَاضٍ، وَكَأَنَّ " إِذْ " مُسْتَقْبَلُهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ؛ لِأَنَّ الْحَالَ كَمَا تَأْتِي مُقَارَنَةً تَأْتِي مُقَدَّرَةً، وَهِيَ أَنْ تُقَدِّرَ الْمُسْتَقْبَلَ مُقَارَنًا، فَتَكُونُ أَطْلَقْتَ مَا بِالْفِعْلِ عَلَى مَا بِالْقُوَّةِ مَجَازًا، وَجَعَلْتَ الْمُسْتَقْبَلَ حَاضِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزُّمَرِ: 73). وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ الْعَامِلُ وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ مِنِ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْآنَ أَنْ يُقْسِمَ بِطُلُوعِ النَّجْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْقَسَمُ فِي الْحَالِ، وَالطُّلُوعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَيُوجَدُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، فَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ " الْمُفَصَّلِ " فَقَالَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، فَلَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الْقَسَمِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى: أُقْسِمُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِاللَّيْلِ، فَيَصِيرُ الْقَسَمُ مُقَيَّدًا، وَالْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ فَهِيَ إِذَنْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ فِي مَحْذُورٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّيْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الزَّمَانِ الْمَعْرُوفِ، فَإِذَا جَعَلْتَ " إِذَا " مُعْمُوْلَةً لِفِعْلٍ هُوَ حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ، لَزِمَ وُقُوعُ الزَّمَانِ فِي الزَّمَانِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَلَيْهِ فَقَدْ يُمْنَعُ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَكُونُ حَالًا مُقَدَّرَةً. وَقَوْلُهُ: يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَامِلٌ. قُلْنَا: بَلْ لَهُ عَامِلٌ، وَهُوَ فِعْلُ الْقَسَمِ، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ إِنْشَاءً لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْأَخِيرَةُ، فَقَدْ سَأَلَهَا أَبُو الْفَتْحِ، فَقَالَ: كَيْفَ جَازَ لِظَرْفِ الزَّمَانِ هُنَا أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْجُثَّةِ، وَقَدْ عُلِمَ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ صِلَةً لَهُ وَصِفَةً وَخَبَرًا! وَأَجَابَ بِأَنَّهَا جَرَتْ مَجْرَى الْوَقْتِ الَّذِي يُؤَخَّرُ وَيُقَدَّمُ. وَهِيَ أَيْضًا بَعِيدَةٌ لَا تَنَالُهَا أَيْدِينَا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمُنَا بِهَا فِي حَالِ نَصْبِهَا، إِحَاطَتُنَا بِمَا يَقْرُبُ مِنْهَا، فَجَرَتْ لِذَلِكَ مَجْرَى الْمَعْدُومِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ لِظَرْفِ الزَّمَانِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ النَّجْمِ؟ وَأَجَابَ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجُوزُ فِي الْحَالِ مِنْ حَيْثُ كَانَ فَضْلَةً. انْتَهَى. وَقَدْ يُقَالُ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا الِامْتِنَاعَ فِي الْحَالِ أَيْضًا، فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ وَحُضُورِ اللَّيْلِ، وَتَجْعَلُهُ حَالًا مِنَ الْحُضُورِ لَا مِنَ الْجُثَّةِ. وَالتَّحْقِيقُ- وَبِهِ يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- أَنْ يُدَّعَى أَنَّ " إِذَا " كَمَا تَجَرَّدَ عَنِ الشَّرْطِيَّةِ كَذَلِكَ تَجَرَّدَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، فَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِمُجَرَّدِ الْوَقْتِ مِنْ دُونِ تَعَلُّقٍ بِالشَّيْءِ تُعَلُّقَ الظَّرْفِيَّةِ الصِّنَاعِيَّةِ، وَهِيَ مَجْرُورَةُ الْمَحَلِّ هَهُنَا لِكَوْنِهَا بَدَلًا عَنِ اللَّيْلِ، كَمَا جَرَتْ بِـ " حَتَّى " فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} (الزُّمَرِ: 71) وَالتَّقْدِيرُ: أُقْسِمُ بِاللَّيْلِ وَقْتَ غِشْيَانِهِ، أَيْ أُقْسِمُ بِوَقْتِ غِشْيَانِ اللَّيْلِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ صَارَ أَحَدٌ إِلَى تَجَرُّدِهَا عَنِ الظَّرْفِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ مَعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّسْهِيلِ، فَقَالَ: وَقَدْ تُفَارِقُهَا الظَّرْفِيَّةُ مَفْعُولًا بِهَا، أَوْ مَجْرُورَةً بِحَتَّى، أَوْ مُبْتَدَأً. وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا زِيَادَةُ رَابِعٍ وَهُوَ الْبَدَلِيَّةُ (فَائِدَةٌ). وَتُسْتَعْمَلُ أَيْضًا لِلِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} (الْبَقَرَةِ: 14) وَقَوْلِهِ: {لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} (آلِ عِمْرَانَ: 156) فَهَذَا فِيمَا مَضَى لَكِنْ دَخَلَتْ " إِذَا " لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ أَبَدًا، وَمُسْتَمِرٌّ فِيمَا سَيَأْتِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَنَدْمَانٍ يَزِيدُ الْكَأْسَ طِيبًا *** سُقِيْتُ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ. (الْأُولَى) الْمُفَاجَأَةُ مَعْنَاهَا عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الشَّيْءِ فِي حَالٍ أَنْتَ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (الْأَعْرَافِ: 107) وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الرُّومِ: 36). قَالُوا: وَلَا تَقَعُ بَعْدَ " إِذَا " الْمُفَاجَأَةِ إِلَّا الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ، وَبَعْدَ " إِذْ " إِلَّا الْفِعْلُ الْمَاضِي. وَمَذْهَبُ الْمُبَرِّدِ وَتَبِعَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ- أَنَّ الْمُفَاجَأَةَ نَقَلَهَا إِلَى الْمَكَانِ عَنِ الزَّمَانِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مُوَافَقَةُ الثُّعْبَانِ لِإِلْقَاءِ مُوسَى الْعَصَا فِي الْمَكَانِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: خَرَجْتُ فَإِذَا السَّبُعُ، أَيْ فَإِذَا مُوَافَقَةُ السَّبُعِ، لِحَرْفٍ حَيٍّ فِي الْمَكَانِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: فَإِذَا السَّبُعُ بِالْحُفْرَةِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا. (الثَّانِيَةُ): الظَّرْفِيَّةُ ضَرْبَانِ: ظَرْفٌ مَحْضٌ، وَظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ. - فَالْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْلِكِ: رَاحَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (اللَّيْلِ: 1) وَمِنْهُ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (النِّسَاءِ: 108) وَ إِذَا كُنْتَ عَلَى رَاضِيَةٍ، وَ " إِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى " لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، لَكَانَ جَوَابُهَا مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، وَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ فِي الْأَوَّلِ: " إِذَا يَغْشَى أُقْسِمُ " فَيَفْسَدُ الْمَعْنَى لُغَةً، أَوْ يَصِيرُ الْقَسَمُ مُتَعَلِّقًا عَلَى شَرْطٍ، لَا مُطْلَقًا فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ غَيْرَ حَاصِلٍ الْآنَ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا وُجِدَ شَرْطُهُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى حُصُولِ الْقَسَمِ الْآنَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. وَكَذَا حُكْمُ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النَّجْمِ: 1) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (الْفَجْرِ: 4). وَمِمَّا يَتَضَمَّنُ لِلظَّرْفِيَّةِ الْعَارِيَةِ مِنَ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشُّورَى: 39) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ لَوَجَبَتِ الْفَاءُ فِي جَوَابِهَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي يَقْتَضِي شَرْطًا وَجَوَابًا، وَلِهَذَا تَقَعُ الْفَاءُ بَعْدَهَا عَلَى حَدِّ وُقُوعِهَا بَعْدَ " إِذْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (الْأَنْفَالِ: 45) وَكَذَا كَثُرَ وُقُوعُ الْفِعْلِ بَعْدَ مَاضِي اللَّفْظِ مُسْتَقْبَلَ الْمَعْنَى، نَحْوُ: إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. وَمِنْهُ: إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ. وَتَخْتَصُّ الْمُضَمَّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ بِالْفِعْلِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَلِهَذَا إِذَا وَقَعَ بَعْدَهَا اسْمٌ قُدِّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِعْلٌ مُحَافَظَةً عَلَى أَصْلِهَا، فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا كَانَ فَاعِلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الِانْشِقَاقِ: 1) وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا كَانَ مَفْعُولًا، وَالْفَاعِلُ فِيهِ أَيْضًا ذَلِكَ الْمُقَدَّرُ، كَقَوْلِهِ: إِذَا ابْنُ أَبِي مُوسَى بِلَالًا بَلَغْتِهِ *** وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا بَلَغْتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ اخْتِصَاصَهَا بِالْفِعْلِ، لِجَوَازِ: " إِذَا زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ ". وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْفُوعُ بَعْدَهَا مُبْتَدَأٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ مَالِكٍ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا الْجَرُّ بِالْإِضَافَةِ، وَالْفَاعِلُ فِيهَا جَوَابُهَا، وَقِيلَ: لَيْسَتْ مُضَافَةً وَالْعَامِلُ فِيهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَلِيهَا لَا جَوَابُهَا. (تَنْبِيهٌ): مِمَّا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ إِذَا الْمُفَاجَأَةُ وَإِذَا الَّتِي لِلْمُجَازَاةِ الْمُفَاجَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ أَنَّ " إِذَا " الَّتِي لِلْمُفَاجَأَةِ لَا يُبْتَدَأُ بِهَا كَقَوْلِهِ: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الرُّومِ: 36) وَالَّتِي بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ يُبْتَدَأُ بِهَا، نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ، فَقَالَ فِي الْأُولَى: إِذَا جَوَابٌ بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ، وَإِنَّمَا صَارَتْ جَوَابًا بِمَنْزِلَةِ الْفَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يُبْدَأُ بِهَا كَمَا لَا يُبْدَأُ بِالْفَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَكِنْ قَدْ عُورِضَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ الْفَاءَ قَدْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ تَكُونُ عِوَضًا مِنْهَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَدْخُلُ تَوْكِيدًا، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ} (الْجَاثِيَةِ: 25) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا مَتَمَحِّضَةُ الظَّرْفِيَّةِ لِعَدَمِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا مَعَ " مَا "، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ " مَا " جَوَابَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، لَا جَوَابَ الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِئْ بِالْفَاءِ. (الثَّالِثَةُ) جَوَّزَ ابْنُ مَالِكٍ أَنْ تَجِيءَ لَا ظَرْفًا وَلَا شَرْطًا، وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا " حَتَّى " الْجَارَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} (الزُّمَرِ: 71) أَوِ الْوَاقِعَةُ مَفْعُولًا كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَلَيَّ رَاضِيَةً وَكَمَا جَازَ تَجَرُّدُهَا عَنِ الشَّرْطِ جَازَ تَجَرُّدُهَا عَنِ الظَّرْفِ. وَتَحَصَّلَ أَنَّهَا تَارَةً ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَفِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ، نَحْوُ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطَّلَاقِ: 1) وَتَارَةً ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ غَيْرُ شَرْطٍ، نَحْوُ: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} (مَرْيَمَ: 66) وَتَارَةً ظَرْفٌ غَيْرُ مُسْتَقْبَلٍ، نَحْوُ: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 92) وَتَارَةً لَا ظَرْفٌ وَلَا شَرْطٌ، وَتَارَةً لَا تَكُونُ اسْمَ زَمَانٍ، وَهِيَ الْمُفَاجَأَةُ. (الرَّابِعَةُ) أَصْلُ " إِذَا " الظَّرْفِيَّةِ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ كَمَا أَنَّ " إِذْ " لِمَا مَضَى مِنْهُ، ثُمَّ يُتَوَسَّعُ فِيهَا، فَتُسْتَعْمَلُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَمِرِّ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا الْحَاضِرَةِ، وَالْمَاضِيَةِ، وَالْمُسْتَقْبَلَةِ، فَهِيَ فِي ذَلِكَ شَقِيقَةُ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي هُوَ يُفْعَلُ حَيْثُ يُفْعَلُ بِهِ نَحْوُ ذَلِكَ. قَالُوا: إِذَا اسْتُعْطِيَ فُلَانٌ أَعْطَى، وَإِذَا اسْتُنْصِرَ نَصَرَ، كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ يُعْطِي الرَّاغِبَ، وَيَنْصُرُ الْمُسْتَغِيثَ، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إِلَى تَخْصِيصِ وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيمِ. الْخَامِسَةُ: تُجَابُ إِذَا الظَّرْفِيَّةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ الشَّرْطِيَّةُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. - أَحَدُهَا: الْفِعْلُ مِنْ جَوَابَاتِ إِذَا الشَّرْطِيَّةِ نَحْوُ: إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. - وَثَانِيهَا: الْفَاءُ مِنْ جَوَابَاتِ إِذَا الشَّرْطِيَّةِ نَحْوُ: إِذَا جِئْتَنِي فَأَنَا أُكْرِمُكَ. - ثَالِثُهَا: إِذَا الْمَكَانِيَّةُ مِنْ جَوَابَاتِ إِذَا الشَّرْطِيَّةِ قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الرُّومِ: 25) وَقَوْلُهُ: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 64). وَمَا قَبْلَهَا إِمَّا جَوَابُهَا، نَحْوُ: إِذَا جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) وَالْمَعْنَى فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ تَقَاطَعُوا، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ). وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (الْفُرْقَانِ: 22) وَإِنَّمَا احْتِيجَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ مَا بَعْدَ " لَا " النَّافِيَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَعْمَلُ فِيهِ مَا قَبْلَهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ " بُشْرَى " مَصْدَرٌ، وَالْمَصْدَرُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا كَانَ فِي صِلَتِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (الرُّومِ: 25) فَالْعَامِلُ فِي " إِذَا " الْأُولَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ (إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) وَالتَّقْدِيرُ خَرَجْتُمْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ " تَخْرُجُونَ " لِامْتِنَاعِ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ " إِذَا " فِي الْمَكَانِيَّةِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَحُكْمُهَا فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْفَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (الْمُدَّثِّرِ: 8- 9) فَالْعَامِلُ فِي " إِذَا " مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ صَعُبَ الْأَمْرُ. وَقَوْلُهُ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ} (سَبَأٍ: 7) فَالْعَامِلُ فِي " إِذَا " مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سَبَأٍ: 7) مِنْ مَعْنَى " بُعِثْتُمْ " أَوْ " مَبْعُوثُونَ ". فَإِنْ قِيلَ: أَيَجُوزُ نَصْبُ " إِذَا " بِقَوْلِهِ " جَدِيدٍ " لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَيْهِ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَعْمَلَ مَا بَعْدَ " إِنَّ " فِيمَا قَبْلَهَا، وَهَذَا يُسَمَّى مُجَاوَبَةَ الْإِعْرَابِ، وَالْمَعْنَى لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يُلِمُّ بِهِ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمَنْظُومِ وَالْمَنْثُورِ. وَالْمَعْنَى يَدْعُو إِلَى أَمْرٍ، وَالْإِعْرَابُ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي نَوْعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِعْرَابِ. (الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ): " إِذَا " تُوَافِقُ " إِنَّ " فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَتُخَالِفُهَا فِي بَعْضٍ، فَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ: فَهِيَ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَطْلُبُ شَرْطًا وَجَزَاءً، نَحْوُ: إِذَا قُمْتَ قُمْتُ، وَإِذَا زُرْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. وَكُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَطْلُبُ الْفِعْلَ، فَإِنْ وَقَعَ الِاسْمُ بَعْدَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قُدِّرَ لَهُ فِعْلٌ يَرْفَعُهُ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ، مِثَالُهُ فِي " إِنَّ " قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} (النِّسَاءِ: 128) {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (النِّسَاءِ: 176) وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (التَّوْبَةِ: 6) وَمِثَالُهُ فِي " إِذَا " قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الِانْشِقَاقِ: 1) وَ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التَّكْوِيرِ: 1) وَمَا بَعْدَهَا فِي السُّورَةِ مِنَ النَّظَائِرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (الِانْفِطَارِ: 1) وَمَا بَعْدَهَا مِنَ النَّظَائِرِ، وَ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الْوَاقِعَةِ: 1). - وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تُخَالِفُ فِيهَا إِذَا إِنْ تُخَالِفُهَا فَفِي مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ أَنْ لَا تَدْخُلَ إِلَّا عَلَى مَشْكُوكٍ مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ " نَحْوُ: إِنْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ، وَلَا يَجُوزُ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ آتِيكَ، لِأَنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ مُتَيَقَّنٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُتَيَقَّنُ الْوُقُوعِ مُبْهَمَ الْوَقْتِ جَازَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَإِنْ مِتَّ} (الْأَنْبِيَاءِ: 34) وَنَظَائِرِهِ. وَأَمَّا " إِذَا " فَظَاهِرُ كَلَامِ النُّحَاةِ يُشْعِرُ بِأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى الْمُتَيَقَّنِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، نَحْوُ: إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأْتِنِي، وَقَوْلِهِ: إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ *** وَقَوْلِهِ: إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَسَلِّمِي *** وَذَلِكَ لِكَوْنِهَا لِلزَّمَنِ الْمُعَيَّنِ بِالْإِضَافَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْزِمُوا بِهَا فِي الِاخْتِيَارِ لِعَدَمِ إِبْهَامِهَا كَالشُّرُوطِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَتْ شُرُوطُ الْقُرْآنِ بِهَا، كَقَوْلِهِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التَّكْوِيرِ: 1) وَنَظَائِرِهَا السَّابِقَةِ، لِكَوْنِهَا مُتَحَقِّقَةَ الْوُقُوعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} (الْإِنْسَانِ: 28) فَقَدْ أَشْكَلَ دُخُولُهَا عَلَى غَيْرِ الْوَاقِعِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ مُحْتَمِلٌ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ. وَالثَّانِي: إِهْلَاكُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَبْدِيلُ أَمْثَالِهِمْ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (النِّسَاءِ: 133) فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ فِي الدُّنْيَا، وَجَبَ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا بِمَعْنَى " إِنْ " الشَّرْطِيَّةِ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ، فَهِيَ مَكَانُ " إِنْ " لِأَنَّ الشَّرْطَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ، وَأَلَّا يَكُونَ، أَلَا تَرَى إِلَى ظُهُورِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} (النِّسَاءِ: 133) {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} (سَبَأٍ: 9) وَإِنَّمَا أَجَازَ لِـ " إِذَا " أَنْ تَقَعَ مَوْقِعَ " إِنْ " لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّدَاخُلِ وَالتَّشَابُهِ. وَقَالَ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ: الَّذِي أَظُنُّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا عَلَى الْمُتَيَقَّنِ وَالْمَشْكُوكِ، لِأَنَّهَا ظَرْفٌ وَشَرْطٌ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى الشَّرْطِ تَدْخُلُ عَلَى الْمَشْكُوكِ كَـ " إِنْ " وَبِالنَّظَرِ إِلَى الظَّرْفِ تَدْخُلُ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ كَسَائِرِ الظُّرُوفِ. وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ فِيمَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ (إِنْ) أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِيهِ، لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ لِاسْتِحْقَاقِ الْجَزَاءِ، وَيَمْتَنِعُ فِيهِ لِامْتِنَاعِ الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يُحَثُّ عَلَى فِعْلِ مَا يَجُوزُ أَلَّا يَقَعَ، أَمَّا مَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَلَا يُحَثُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ دُخُولُ " إِذَا " عَلَى الْمَشْكُوكِ إِذَا لُحِظَتْ فِيهَا الظَّرْفِيَّةُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ الْتِزَامُ الْجَزَاءِ فِي زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالْتِزَامُ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ لَا يُعْلَمُ وُجُودُ شَرْطٍ فِيهِ لَيْسَ بِالْتِزَامٍ. وَلَمَّا كَانَ الْفِعْلُ بَعْدَ " إِنْ " مَجْزُومًا بِهِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ تَحَقُّقِهِ، فَيَغْلِبُ لَفْظُ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} (الْأَعْرَافِ: 131) فَجِيءَ بِـ " إِذَا " فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ، وَبِـ " إِنْ " فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ جِنْسُ الْحَسَنَةِ، وَلِهَذَا عُرِّفَتْ، وَحُصُولُ الْحَسَنَةِ الْمُطْلَقَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ فَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ التَّعْبِيرَ بِـ " إِذَا " وَجِيءَ بِـ " إِنْ " فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ، لِأَنَّهَا نَادِرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ الْمُطْلَقَةِ، كَالْمَرَضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالْخَوْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَمْنِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (الْآيَةَ: 36). وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الرُّومِ: 48، 49). وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} (الزُّمَرِ: 8) بِلَفْظِ " إِذَا " مَعَ " الضُّرِّ "، فَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: نُظِرَ فِي ذَلِكَ إِلَى لَفْظِ الْمَسِّ، وَتَنْكِيرِ الضُّرِّ الْمُفِيدِ لِلتَّعْلِيلِ لِيَسْتَقِيمَ التَّوْبِيخُ، وَإِلَى النَّاسِ الْمُسْتَحِقِّينَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ كُلُّ ضَرَرٍ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَسَّ قَدْرٍ يَسِيرٍ مِنَ الضُّرِّ لِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَقْطُوعِ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} (فُصِّلَتْ: 51) بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} (فُصِّلَتْ: 51) أَيْ أَعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ، وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ وَتَكَبَّرَ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْمُعْرِضِ الْمُتَكَبِّرِ لَا لِمُطْلَقِ الْإِنْسَانِ، وَيَكُونُ لَفْظُ " إِذَا " لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْمُعْرِضِ الْمُتَكَبِّرِ يَكُونُ ابْتِلَاؤُهُ بِالشَّرِّ مَقْطُوعًا. الْمَوْضِعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُخَالِفَةِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ بِـ " إِنْ " إِذَا كَانَ عَدَمًا لَمْ يَمْتَنِعِ الْجَزَاءُ فِي الْحَالِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْيَأْسُ مِنْ وُجُودِهِ، مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ " وَلَوْ كَانَ الْعَدَمُ مَشْرُوطًا بِـ " إِذَا " وَقَعَ الْجَزَاءُ فِي الْحَالِ، مِثْلُ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تُطَلَّقْ إِلَّا فِي آخِرِ الْعُمْرِ، وَإِذَا قَالَ: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، تُطَلَّقُ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي زَمَانِ عَدَمِ تَطْلِيقِي لَكِ، فَأَيُّ زَمَانٍ تَخَلَّفَ عَنِ التَّطْلِيقِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ. وَقَوْلُهُ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، تَعْلِيقٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ الطَّلَاقِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِمَوْتِهِ غَيْرَ مُطَلِّقٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ " إِنْ " تَجْزِمُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَ " إِذَا " لَا تَجْزِمُهُ مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ " لِأَنَّهَا لَا تَتَمَحَّضُ شَرْطًا، بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْتِزَامِ الْجَزَاءِ فِي وَقْتِ الشَّرْطِ، مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِالشَّرْطِ. وَقَدْ جَاءَ الْجَزْمُ بِهَا إِذَا أُرِيدَ بِهَا مَعْنَى " إِنْ " وَأُعْرِضَ عَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الزَّمَانِ، كَقَوْلِهِ: وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ " إِذَا " هَلْ تُفِيدُ التَّكْرَارَ وَالْعُمُومَ؟ مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ " فِيهِ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ عُصْفُورٍ: (أَحَدُهُمَا): نَعَمْ، فَإِذَا قُلْتَ: إِذَا قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو، أَفَادَتْ أَنَّهُ كُلَّمَا قَامَ زَيْدٌ قَامَ عَمْرٌو. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُ. قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْعُمُومُ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا " إِنْ " فَفِيهَا كَلَامٌ عَنِ ابْنِ جِنِّي يَأْتِي فِي بَابِ " إِنْ ". الْخَامِسُ: أَنَّكَ تَقُولُ: أَقُومُ إِذَا قَامَ زَيْدٌ، فَيَقْتَضِي أَنَّ قِيَامَكَ بَعْدَ قِيَامِهِ مُرْتَبِطٌ بِقِيَامِهِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى الِاتِّصَالِ، بِخِلَافِ: أَقُومُ إِنْ قَامَ زَيْدٌ، فَيَقْتَضِي أَنَّ قِيَامَكَ بَعْدَ قِيَامِهِ، وَقَدْ يَكُونُ عَقِبَهُ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ. فَالْحَاصِلُ مِنْ " إِنْ " التَّقْيِيدُ بِالِاسْتِقْبَالِ دُونَ اقْتِضَاءِ تَعْقِيبٍ، أَوْ مُبَاعَدَةٍ بِخِلَافِ " إِذَا " مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ ". ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي كِتَابِهِ " مِلَاكُ التَّأْوِيلِ ". الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قِيلَ قَدْ تَأْتِي زَائِدَةً مَوَاضِعُ مُخَالَفَةِ " إِذَا " لِـ " إِنْ " كَقَوْلِهِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (الِانْشِقَاقِ: 1) تَقْدِيرُهُ: انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، كَمَا قَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (الْقَمَرِ: 1) {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} (النَّحْلِ: 1) وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ الْجَوَابَ مُضْمَرٌ. وَيَجُوزُ مَجِيئُهَا بِمَعْنَى " إِذْ " وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ مَالِكٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا} (الْجُمُعَةِ: 11). وَرُدَّ بِفَوَاتِ الْمَعْنَى لِأَنَّ " إِذَا " تُفِيدُ أَنَّ هَذَا حَالُهُمُ الْمُسْتَمِرُّ، بِخِلَافِ " إِذْ " فَإِنَّهَا لَا تُعْطِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: إِذَا فَعَلْتَ كَذَا، فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَضْرُبٍ: (أَحَدُهَا): يَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ قَبْلَ الْفِعْلِ، تَقُولُ: إِذَا أَتَيْتَ الْبَابَ، فَالْبَسْ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} (النَّحْلِ: 98). (الثَّانِي): أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ كَقَوْلِكَ: إِذَا قَرَأْتَ فَتَرَسَّلْ. (الثَّالِثُ): أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} (الْمَائِدَةِ: 2) {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} (الْجُمُعَةِ: 9)
فَائِدَةٌ: [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا}] مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْحَسَنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (الْبَقَرَةِ: 20) أَنَّهُ يُقَالُ: لِمَ أُتِيَ قَبْلَ " أَضَاءَ " بِـ " كُلَّمَا " وَقَبْلَ " أَظْلَمَ " بِـ " إِذَا "؟ وَمَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَكْرَارَ الْإِضَاءَةِ يَسْتَلْزِمُ تَكْرَارَ الْإِظْلَامِ، فَكَانَ تَنْوِيعُ الْكَلَامِ أَعْذَبَ. (الثَّانِي): أَنَّ مَرَاتِبَ الْإِضَاءَةِ مُخْتَلِفَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، فَذَكَرَ " كُلَّمَا " تَنْبِيهًا عَلَى ظُهُورِ التَّعَدُّدِ، وَقُوَّتِهِ لِوُجُودِهِ بِالصُّورَةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، وَالْإِظْلَامُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، فَلَمْ يُؤْتَ بِصِيغَةِ التَّكْرَارِ لِضَعْفِ التَّعَدُّدِ فِيهِ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِالنَّوْعِيَّةِ، وَإِنْ حَصَلَ بِالصُّورَةِ. (الثَّالِثُ): قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ- أَنَّهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى الضَّوْءِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ النُّورِ كَانُوا كُلَّمَا حَدَثَ لَهُمْ نُورٌ تَجَدَّدَ لَهُمْ بَاعِثُ الضَّوْءِ فِيهِ، لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ تَقَدُّمُ فَقْدِهِ، وَاخْتِفَاؤُهُ مِنْهُمْ، وَأَمَّا التَّوَقُّفُ بِالظَّلَامِ فَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْجَوَابِ الثَّانِي لَكِنَّهُ بِمَادَّةٍ أُخْرَى، وَيَفْتَرِقَانِ بِأَنَّ جَوَابَ الزَّمَخْشَرِيِّ يَرْجِعُ التَّكْرَارُ فِيهِ إِلَى جَوَابِ " كُلَّمَا " لَا إِلَى مَشْرُوطِهَا الَّذِي يَلِيهَا وَيُبَاشِرُهَا، فَطَلَبَ تَكْرَارَهُ وَهُوَ الْأَوْلَى فِي مَدْلُولِ التَّكْرَارِ، وَالْجَوَابُ الْمُتَقَدِّمُ يَرْجِعُ إِلَى تَكْرَارِ مَشْرُوطِهَا الَّذِي يَتْبَعُهُ الْجَوَابُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَلْزُومُهُ، وَتَكَرُّرُهُ فَرْعُ تَكَرُّرِ الْأَوَّلِ. (الرَّابِعُ): أَنَّ إِضَاءَةَ الْبَرْقِ مَنْسُوبَةٌ إِلَيْهِ وَإِظْلَامَهُ لَيْسَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، لِأَنَّ إِضَاءَتَهُ هِيَ لَمَعَانُهُ، وَالظَّلَامُ أَمْرٌ يَحْدُثُ عَنِ اخْتِفَائِهِ، فَتُظْلِمُ الْأَمَاكِنُ كَظَلَامِ الْأَجْرَامِ الْكَثَائِفِ، فَأَتَى بِأَدَاةِ التَّكْرَارِ عِنْدَ الْفِعْلِ الْمُتَكَرِّرِ مِنَ الْبَرْقِ، وَبِالْأَدَاةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مُتَكَرِّرًا مِنْهُ وَلَا صَادِرًا عَنْهُ. (الْخَامِسُ): ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ- أَنَّ الْمُرَادَ بِإِضَاءَةِ الْبَرْقِ الْحَيَاةُ، وَبِالظَّلَامِ الْمَوْتُ، فَالْمُنَافِقُ تَمُرُّ حَالَةٌ فِي حَيَاتِهِ بِصُورَةِ الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا دَارٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ، فَإِذَا صَارَ إِلَى الْمَوْتِ رُفِعَتْ لَهُ أَعْمَالُهُ، وَتَحَقَّقَ مَقَامُهُ، فَتَسْتَقِيمُ " كُلَّمَا " فِي الْحَيَاةِ، وَ " إِذَا " فِي الْمَمَاتِ، وَهَكَذَا كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا دَامَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَأَمِتْنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي فَاسْتَعْمَلَ مَعَ الْحَيَاةِ لَفْظَ التَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ، وَاسْتَعْمَلَ مَعَ لَفْظِ الْوَفَاةِ لَفْظَ الِاخْتِصَارِ وَالتَّقْيِيدِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ مَأْثُورَةٌ لِازْدِيَادِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ مَعْقُودَةٌ بِهِ فَعَرَّضَ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ وَالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُتَمَنَّى، وَلَكِنْ إِذَا نَزَلَ فِي وَقْتِهِ رُضِيَ بِهِ. وَإِمَّا لِأَنَّ الْحَيَاةَ يَتَكَرَّرُ زَمَانُهَا، وَأَمَّا الْمَوْتُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ. وَجَوَابٌ آخَرُ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَنْوَارِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُسْتَمِرُّ، وَأَمَّا خَفَقَانُ الْبَرْقِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ فَعَوَارِضُ تَتَّصِلُ بِالْحُدُوثِ وَالتَّكْرَارِ، فَنَاسَبَ الْإِتْيَانُ فِيهَا بِـ " كُلَّمَا " وَفِي تِلْكَ بِـ " إِذَا "، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
|